الجمعة 2018/03/09

آخر تحديث: 16:54 (بيروت)

مَشاهد التلقي الإنتخابي: اشرَبها ورُدَّها!

الجمعة 2018/03/09
مَشاهد التلقي الإنتخابي: اشرَبها ورُدَّها!
انفجر الإشهار الفوتوغرافي، واستحال حكمه عويصاً
increase حجم الخط decrease
لا يمكن القول أن المواطنين اللبنانيين يتفاعلون مع اللعبة الانتخابية على نحو واحد، بل بنَواحٍ متوزعة. ومردّ ذلك، هو أنهم يتلقون بيان تلك اللعبة، ممثلاً في ظهور المرشحين أمامهم، عبر وسائط مختلفة، من السانح تحديد الذائع منها بثلاثة: الإشهار الفوتوغرافي، والإطلالة التلفزيونية، والتواصل الإفتراضي. 

ولكل وسيط من هذه الوسائط آلية إظهار، تنتج أثرها في متلقيها، ساعيةً إلى حضه على تحقيق هدفها، وهو أن يهب صوته لشخصها، الذي يساوي، هنا، موضوعها. 

وهذا، على أساس أن المتلقي، ومن خلال إتاحة حضوره للوسيط، يغدو فاعلاً سياسياً، ففي حال لم يقدم على هذه الإتاحة، يبقى عاطلاً عن واجبه المتمثل بالإقتراع. بالتالي، كلما سمح للوسيط أن يستحوذ عليه، تجنب إرتكاب خطيئة، مفادها الإقلاع عن المشاركة في إعادة إنتاج المشهد البرلماني. فأن يكون ديموقراطياً، وفاعلاً في ديموقراطيته، فهذا يعني أن يترك الوسيط يحكمه كسبيل إلى أن يختار حكامه.

لا تحكم تلك الوسائط المذكورة آنفاً بالطريقة ذاتها، بحيث أن كل وسيط منها يطرح طريقته كأنها تطوير للطرق السابقة عليه. فالإشهار الفوتوغرافي، ولأنه يقدم المرشحين على جمود في صورهم، يدفع متلقيه إلى التوقف، ولو قليلاً، مقابلها من أجل النظر في سحنات هؤلاء ووضعياتهم، فضلاً عن أسمائهم، ومقاعدهم. في النتيجة، يحكم المتلقي بإبطاء مروره بقربه، طالباً منه أن يشغل عينه جيداً. 

لكن، بإلتفاتة بسيطة إلى صور المرشحين، من الممكن ملاحظة إصابتها بخلل جمالي، لا يعالجه إخراجها عبر المؤسسات الإعلانية. وهذا الخلل، ومع أنه مرتبط بأسباب تتعلق بنضوب الخيال في البلاد، لكنه، يرتبط بانحسار وقع الإشهار الفوتوغرافي، الذي يشير إليه أمران: الإنتقال من تعليق صورة مرشح على جدار، إلى تكثيرها، وزرعها أينما كان، كأنها ما عادت تحكم، بل صارت تستنجد الحكم الضئيل.

والإنتقال من كونها صورة، لا يبرز فيها سوى الطامح إلى دخول النادي النيابي، إلى كونها صورة، يبرز أي كان فيها. وفعلياً، هو ليس "أياً كان"، إذ أن بروزه في هذه الصورة يشترط تميزه بسمة ٍ قاطعة، وهي أن يكون غائباً عن المجال العام، وليس حاضراً فيه، كما هو وضع ذلك الطامح.

بعد 2005، صار الموت هو باب البروز في الصورة، التي، انفتحت، واستقبلت الجميع، من شاب قتله حادث سير إلى فتاة رحلت بسبب مرض أصابها. كل هؤلاء، وغيرهم طبعاً، بدوا في الصورة، التي ما عاد يقتصر استخدامها على الإستحقاق الإنتخابي، بل اشتمل استعمالها على كل إستحقاق، يكون قوامه الفقدان، ومراسم الوداع. 

انفجر الإشهار الفوتوغرافي، واستحال حكمه عويصاً، لا سيما أن عين المتلقي ما عادت تحبذ إظهار موضوعها جامداً في إزائها، مهما جرى تكثيره وزرعه، أو بالأحرى استنساخه. وعليه، كانت الإطلالة التلفزيونية تغييراً لهذا الجمود إلى حركة. فعلى إثرها، يظهر المرشحون في أثناء تأديتهم لشخوصهم، التي من اللازم أن تتوجه إلى المتلقي كمتفرج، أكان عبر هيئتها، أو عبر حديثها، وفي الحالتين، من أجل جذبه.

فالمطلوب منه أن يجد في المرشحين فرجة، وهذا يعني أن يسلوه بمخاطبة نوازعه، وهذا يعني أن يحتلوا جزءاً من خاطره المتصل بالشاشة الصغيرة، أي الخاطر الذي تملأه البرامج وأسماء المذيعات والمذيعين. لهذا، على المرشحين، ولكي يفوزوا به، أن يحولوا كلامهم السياسي إلى ملهاة تثير المتلقي، أكان عبر التلويح بالفتنة، أو بالإنتصار، أو بالحرب، أو بشد عصبه الهوياتي، أو بشد عصبه التمردي. وإذا لم يحرز كل هذا إثارته، لا بد من مضي المرشحين إلى الرقص، أو الغناء، أو أي شيء من قبيلهما، وإذا لم يحققوا مرادهم بهذا أيضاً، لا مناص لهم من التعارك مع منافسيهم، أي المذيعات والمذيعين، والإنصراف من استديوهاتهم بعد شجار أو تلاسن.

فالمهم أن يتحركوا أمام المتلقي. ولو كانت "حركتهم بلا بركة"، فلا بأس، طالما أن إطلالتهم التلفزيونية تستلزم منهم ذلك. لكن المتلقي متفرج، وبالتالي، يريد التفريج عنه، وعندما لا يقع على غايته في إطلالة هؤلاء، يستعمل الـzapping ضدهم. إلا أن هذا ليس السبب لتعطل حكم الإطلالة التلفزيونية، بل إن العلة تكمن في حالة التلفزيونات المحلية، في أزمتها، التي جعلتها تقفل وتدور على ذاتها، إذ تعرف أن إظهارها للمرشحين ما عاد يطعمها خبزاً، يدعى "رايتنغ"، كما تعرف أن أي إظهار لهؤلاء، ولكي يطعمها هذا الخبز، يجب أن يكون على منوال معين، منوال يمثله اليوم ساخروها، مثل هشام حداد وعادل كرم اللذين يسجلان وضعاً بعينه: تآكل الإعلام المرئي بعد إنغلاقه.

يفلت المتلقي من حكم الاطلالة التلفزيونية، ليس لأنه لا يتفرج عليها، لكن لأنه، وعندما يتفرج عليها، يطالبها بالمزيد. فعلى المرشحين ان يسلوه بحركتهم، وإلا فهم لا يستحقون استمرار المشاهدة. بيد أن هؤلاء يلاحقونه عبر وسيط التواصل الافتراضي، فايسبوك وتويتر، حيث متابعتهم لا تستلزم منه الكثير من الوقت، ولا تستلزم تحمل ضجيجهم، ولا تستلزم ان يكتفي بتلقيهم، بل تقاسم الآراء معهم.

حكم هذا الوسيط هو ان يتواصل مع المرشحين، أن يكون من اصدقائهم، ان يغرد معهم، وأن يعجب بهم، وأن يعيد نشر بوستاتهم وتغريداتهم. بهذا، يصيرون مثل أي من المشتركين في مواقع التواصل. ولهذا، يجري تلقي ظهورهم بالميكانيزمات نفسها التي تنتجها هذه المواقع، وفي مقدمتها، ميكامنيزم التهكم. فالمتلقون يسخرون من المرشحين، يعلقون بالضحك عليهم. وهذا، ولو كان دليلاً على ضيق الذرع بهم، لكنه أيضاص إشارة إلى التواصل معهم. فكلما تحول المرشحون إلى موضوع سخرية، فهذا يعني أن تلقيهم جارٍ. وكلما سخروا بدورهم، فهذا يجعلهم فاعلين تواصلياً.

في المحصلة، حكم الإشهار الفوتوغرافي للمرشحين منحسر. وحكم إطلالتهم التلفزيونية لا يستقر على تمامه إلا عندما يقلعون عن كونهم مرشحين ليصيروا شخصيات مبرمجة. وحكم التواصل معهم يؤدي إلى التهكم عليهم. لكن، لماذا يقدم المتلقون على التصويت لهؤلاء المرشحين في نهاية اللعبة الانتخابية ما دام تلقيهم ملتبساً إلى هذا الحد؟ لماذا يصوتون لهم بعد إشاحة العين عنهم، وبعد الضجر من التفرج عليهم، وبعد التهكم عليهم؟ لماذا يصوتون لهم بلا تلقيهم؟ 

الإجابات متعددة: بسبب مصالحهم، وبسبب أن الجمهور بمثابة نوبة عاطفية متناقضة، مع الشيء وضدّه على حد سواء، وبسبب الخوف الطائفي... ولأن... ولأن... كل هذا موضوع نقاش. لكن جانباً آخر لفعل المتلقين يتم إغفاله، وهو أن قوامه، أي اللاتلقي، لا يعني عدم التفاعل. بل على العكس، يعني الإطناب في التفاعل. وبعبارة أخرى:  إشاحة العين هي أقصى التأمل في الصورة، والضجر هو أقصى التفرج، والتهكم هو أقصى التواصل. بالتالي، عدم التلقي هو ذروة التلقي.

وهكذا، تبدو الصناديق مكاناً للإفراج عن موضوع ذلك التلقي، بعد وصوله إلى ذروته. فالإنتخابات هي أن يردَّ المتلقي ما أُعطي له. ولهذا، الدعوة إلى مقاطعتها هي بمثابة كبح لهذا الرد، كبح يؤدي إلى إطلاقه بسرعة، وإنتاج أي سلطة لاحقاً. 

ما أُعطي للمتلقي ليس سوى مشهد، وعندما يرجعه، يرجعه فارغاً. تماماً كما تقول الدعاية الشهيرة لأحد المشروبات الغازية، "اشربها وردّها". الإنتخاب هو أن يرد المواطن المشهد السياسي خالياً، ليعيد الحصول عليه ممتلئاً، وفي أثناء "شربه" له، يغلق عينيه، ويضجر، ويتهكم. لكن ذلك كله علامة على أنه تجرعه بالكامل. وفي النهاية، ينتظر فتح الصناديق، لرمي الفارغ فيه. فكل ورقة اقتراعية، مهما كانت مكتظة بالأسماء، هي ورقة بيضاء!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها