الجمعة 2018/03/23

آخر تحديث: 13:05 (بيروت)

فضيحة "كمبريدج أناليتيكا" وفايسبوك: من خلق الطلب إلى فردنته

الجمعة 2018/03/23
فضيحة "كمبريدج أناليتيكا" وفايسبوك: من خلق الطلب إلى فردنته
زوكيربيرغ اقر بارتكاب اخطاء في القضية
increase حجم الخط decrease
خرج مارك زوكربيرغ، أخيراً عن الصمت الذي ألتزم به منذ تفجر فضيحة كمبريدج أناليتيكا، ليقرّ، يوم الأربعاء الماضي، بارتكاب فايسبوك أخطاء في القضية. لكن البيان الذي أصدره زوكربيرغ كان قد هون حجم ونوعية الخطأ. فبيانات عشرات الملايين من المستخدمين التي أسيء استخدامها بواسطة شركة الاستشارات السياسية، كانت قد وصلت إليها عبر ما أطلق عليه "خرق للثقة" لا أكثر. 

ولأن الأمر لا يتعدى سوى الالتزام ببروتوكولات تبادل ومشاركة البيانات بين التطبيقات بعضها مع بعض، كما صوره زوكربيرغ، فإن كل ما تطلبه الأمر هو مجموعة من الإجراءات الإدارية والتقنية لضمان تنفيذ تلك العلاقات التعاقدية لا تعديلها أو تغيير منطقها وطريقة عملها. 

وفي مقابل ذلك التهوين، فإن معظم وسائل الإعلام، قد تلقفت القضية لرسم سيناريو ديستوتوبيا متكاملاً. فتطبيق قياس الشخصية الذي تم عن طريقة تجميع بيانات المستخدمين، يقف وراءه عالم شرير، هو الأكاديمي والمتخصص في علم النفس، ألكسندر كوجان. ولمزيد من الإثارة، فإن وسائل الإعلام كشفت عن أن كوجان من أصل روسي، و"متورط" في مشروعات أكاديمية مع جامعات روسية، وبالطبع لا حاجة للقول بأن روسيا تقف اليوم وراء كل الشرور في العالم. 

لكن ولتتصاعد الحبكة فإن تلك البيانات قد تم استخدامها في رسم سجلات فردية لشخصيات المستخدمين وميولهم، ومن ثم "التلاعب بمخاوفهم ونقاط ضعفهم"، عبر توليد عشرات الآلاف من رسائل الدعاية السياسية ذات الطابع الشخصي، لإقناع متلقيها بخيارات سياسية بعينها. ولا يصعب تصور هذه الخيارات، فمؤامرة البريكسيت، وانتخاب ترامب، يقف ورائها كوجان و"كمريدج أناليتكيا"، ومعهما روسيا، من خلف الستار، كالعادة. 

لكن ومع المسافة الكبيرة بين الروايتين، فإن كلاهما يتفقا على تصوير القضية بوصفها خرقاً للقواعد، لا تأكيداً لواقع قائم بالفعل. ويبدو إنكار ذلك الوقع مفهوماً، في رواية زوكربيرغ، بدافع لحماية سمعة شركته وتعويض خسائر أسهمها. إلا أن الرواية التآمرية التي روجها الإعلام، ومبالغتها في تصوير مدى إمكانية التلاعب بالجمهور وخياراته، تصل إلى نتائج هي ربما على العكس تماماً مما يجب استخلاصه من القضية. 

فرواية الإعلام مازالت تعتمد على نقد "الثقافة الجماهيرية" الذي يعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. فالإعلام الكثيف، والبروباغندا السياسية قادرة على مسخ الجماهير، وتجريد المتلقين من فرديتهم، وقيادتهم كالقطيع مسلوب الإرادة بالكامل، وكذلك فإن مهمة الماكينة الإعلانية ليس ترويج السلعة، بل خلق الطلب عليها بالأساس. 

لكن تلك الرؤية النقدية، كان قد تجاوزها الزمن بالفعل، كما الواقع الذي تتعامل معه. فالتحول نحو المتلقي، ونحو طرق قراءة المحتوى الدعائي، كان قد حل بدلاً من الإنشغال بعميلة إنتاجه، ومنتجيه. وفي اعتراف بأدوار الجماهير الفاعلة والإرادية في الاشتباك مع الرسائل الدعائية والمحتوى الثقافي بوجه عام، وإعادة تفسيرها وإنتاجها. كذلك، فإن التحول في الوسائط من الميديا المركزية، الجرائد والسينما والإذاعة والتلفزيون، إلى الوسائط الشبكية والتفاعلية، قد أتاح توليد وتوزيع عدد لامتناهٍ من النسخ المتنوعة للمحتوي، ذات الطابع الشخصي، والموجهة للاحتياجات والميول الفردية لمتلقيها، لا مسخها في كتلة واحدة مطيعة.

لكن حتى هذه العملية، أي فردنة التوليد والاستهداف الدعائي، يبدو أثرها محدوداً في التأثير على قرارات متلقيها. فهي مجرد عملية تدوير لمدخلاتها، وتعزيز ذاتي لمحتواها. فاختبارات الشخصية، مثل تلك التي استخدمها كوجان، في فضيحة "كمبريدج أناليتيكا"، لا تستخدم سوى منطق دائري. فمثلا، المستخدم الذي يجيب على أسئلة الاستبيان بأنه خجول ويتحاشى الظهور والمناسبات الاجتماعية، تعود له نتيجة الاختبار بأن شخصيته "انطوائية". لكن وإن حاول المستخدم تبين ما تعنيه الانطوائية، فإنه لن يصل إلى أكثر من أنها تعني بأنه ذلك الخجل وتحاشي الظهور والمناسبات الاجتماعية، أي ما أدخله هو بالأساس.

هكذا فإن ما تتجاهله، وترسخه في الوقت ذاته، روايتي زوكربيرغ ووسائل الإعلام، هو أن فايسبوك، ومعه مئات الآلاف من التطبيقات، تتبادل في كل لحظة، قدراً شديد الاستثنائية في ضخامته من البيانات وسجلات تفصيلية عن المستخدمين وتحركاتهم وتفضيلاتهم في الواقع والعالم الرقمي، بشكل قانوني واعتيادي، إما دون أن يدري أو يهتم المستخدمين بالأمر، أو أن يشاركوا بشكل واعٍ وإرادي بتزويد الشبكة ببيانات أكثر تفصيلية عن أنفسهم وعن غيرهم.  لكن ذلك الحجم الهائل من البيانات، لا يتم استخدامه بالضرورة في "خلق الطلب"، أو التأثير على المتلقين، بقدر ما يسعى للاقتصاد في استهداف للمستخدمين، بتوجيه الرسائل التي يريدون الاستماع إليها، والمحتوى الدعائي الذي من الأرجح أن يتلقوه بشكل إيجابي، أي تأكيد ما يريدونه بالأساس وتعزيز ميولهم.  

لا يعني هذا بالطبع استبعاد عنصر سوء النية في القضية وتأثيره، أو تجاهل الحاجة لرقابة وقيود أكثر أحكاماً على عمليات تجميع البيانات واستخدامها، لكن يعني ضرورة تجاوز نظرية التأثير التآمري. ففوز ترامب، والتصويت لصالح البريكسيت، وصعود اليمين القومي في الغرب، وغيرها، لم تكن نتيجة مؤامرة إلكترونية لغسيل العقول، تقف من ورائها روسيا، ويمكن حلها ببروتوكولات تبادل معلومات محكمة في المستقبل. بل أن ما يستحق الالتفات في ما نشهده من دلالات تراجع للديمقراطية حول العالم، هو الأسس الاقتصادية والاجتماعية لها، ومسؤولية الهيئات السياسية والنخب عنها، والضحالة الإيديولوجية التي قادت إليها. وهي أمور يبدو أن قصص العلماء الأشرار ومؤامرات الذكاء الصناعي قد غطت عليها. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها