الأربعاء 2017/09/27

آخر تحديث: 18:41 (بيروت)

"غوغل" يحتفي بعالَم الضحك كأنه الجدّ.. وبالعكس

الأربعاء 2017/09/27
"غوغل" يحتفي بعالَم الضحك كأنه الجدّ.. وبالعكس
increase حجم الخط decrease
ضحكاً وسهواً، احتفى "غوغل" بعيد ميلاده التاسع عشر. نعم: سهواً، لأن ذلك هو معنى كلمة "دوودل" (Doodle) المستخدمة في وصف اللعبة الضاحكة التي تظهر في صفحة الموقع العالمي لـ"غوغل" لتحتفي بانصرام 18 عاماً على محرك البحث الشهير. تعني "دوودل" تلك الخربشة التي ترسمها اليد عندما يكون صاحبها ساهياً، يلاعب البياض بخطوط أقرب إلى اللهو، وهي تحمل أيضاً الكثير من فكره ومكنوناتٍ متفاعلة في لاوعيه.


نعم. سهواً "دوودليّاً" لا يكتم تلاعبه بين الضحك والجد، بل تعرض لعبته لوحات بالأبيض والأسود تستهل بإشارة مرحة إلى أنّ أحداً لا يعرف تماماً متى ولد "غوغل"، بل أنّ الشركة نفسها غيّرت تاريخ ميلادها أكثر من مرّة! ويتابع سهو "دوودل" التعبير عن مكنونات لاوعيه، فيمزج دولاب الحظ الأكثر جديّة في "دوودلات" سابقة قُدّمَت عن عظماء الموسيقى مثل بيتهوفن، مع الهازل منها الذي يصوّر الفلفل عالِماً يداوي ذلك الطعم الحارق بالبوظة، ببساطة لأن إسم تلك النبتة "بيل بيبر" يرن في الآذان كأنه اسم إنسان.


لعل تلك الأشياء كلها تشير إلى أن "غوغل" كمحرك وتجربة معيوشة، نشر أيضاً ذائقة باتت تميّز الثقافة في عصر الشبكات والإنترنت: الانتقال من الثقافة العالية للنخب المتنوّعة، وهي مليئة بالجدية والصرامة والمهابة، إلى ثقافة الحياة اليوميّة التي تتمازج فيها الأحوال كلّها في ثقافة العيش العادي اليومي للناس. وبالتالي، في قلب ثقافة ساهم "غوغل" في نشرها، هناك تلاعب على الحدود بين الثقافة النخبويّة الثقيلة، وبين الضحك بوصفه فعلاً إنسانيّاً يتساوى فيه البشر كلهم، بل تجربة لا يكفّون عن التوق لتكرارها وتذوق لذتها الأصيلة. وفي ذلك التمازج، لا تعود الجديّة معاكسة للضحك، بل كلاهما يتفاعل مع الآخر. واستطراداً، يتمازج العلم الصارم مع المرح والرقص والخفة؛ وتتشابك السياسة ثقيلة الوطأة مع الأهواء والشهوات والمكبوتات التي يعتبر الضحك من أشكال تفجّراتها وانفلاتاتها.

زمن كلينتون
تبرير الحديث عن ذلك التمازج والتلاعب يحيل تلقائياً إلى لعبة حتمية مع الزمن. ففي العام 1998 استهل "غوغل" عمله في الولايات المتحدة، وكانت تلك السنة نفسها التي أحدث فيها الرئيس بيل كلينتون، خضّة في الرئاسة الأميركية عبر فضيحة جنسيّة مع مونيكا لوينسكي. قبل تلك الآونة، كانت صورة رئاسة أميركا فائقة الصرامة. حتى الرئيس فائق الجنسانيّة، جون كينيدي، سارت شهواته وصبواته تحت ستار ثقيل من الاستخبارات إلى حدّ دفع بعشيقته الأسطورة مارلين مونرو إلى انتحار مريع. وزاد من ثقل تلك الصورة، المصرع الدامي لكينيدي، وهو أصغر رئيس لأميركا والكاثوليكي الوحيد أيضاً. لا خفة ولا شهوة في ذلك السياق الذي نما في ظل إعلام الورق والتلفزة بالأبيض والأسود.

ومع كلينتون الذي تباهى وتفاخر مراراً بأنه عمل على نشر الإنترنت، اكتست صورة الرئاسة الأميركيّة طابعاً أخفّ وأوضح امتزاجاً مع الجنس وشهواته، على نحو يذكّر بالمعلن من حضور الجنس في الحياة اليوميّة للناس. تلك كانت صورة الرئاسة في عصر الانترنت و"غوغل". ولعلها ليست مصادفة أن كلينتون سُئل أيضاً عن طريقة تصفّحه للإنترنت، فأجاب بأنه يسير من وصلة إلكترونيّة إلى اخرى، مع تلميح إلى إن مواقع الجنس ليست بعيدة من ذلك المسار. أليس ذلك في صلب التغيير الذي حمله "غوغل" ونشره على امتداد الأرض؟

في تلك الآونة عينها، حدثت تمازجات عدّة، سقطت معها حدود صارمة كثيرة. سقط حدّ صارم بين أقدام المرأة وكرة القدم، فكرّست عبر "فيفا". وتماحت تلك السطوة المهيبة للإنسان عندما هزمه الكومبيوتر في الشطرنج، وهو ضربة إلى العقل الذي يعتبره البشر مركزاً لهويّتهم وموضعاً لتمايزهم عن الكائنات الحيّة كافة. وبين الضحك والمرح والجدّ والعِلم، طرح الروبوت نفسه منافساً للبشر في كرة القدم، فلم تعد حدّاً صارماً يفصل الإنسان عن كل ما يدب على الأرض.

العلم رقصاً وضحكاً
مع ذيوع التلاعب مع "غوغل" على الألياف الضوئيّة للانترنت واستمرار الناس في تناقل صور عن حياتهم اليوميّة بأبعادها المتمازجة كافة، حرفيّاً، عبر "يويتوب" الذي تمتلكه "غوغل"، اهتزت جديّة العلم وصرامته، بل بالأحرى غادرت جديّة ليست جديّة فعليّة، لتنتقل إلى هزل ليس هزلاً فعليّاً أيضاً! أيّاً كانت غرابة الكلمات، فلا أقل منها في وصف أن جامعات كبرى في الغرب، وهو العقل الكبير للعلوم المعاصرة، تبنّت طريقة لم تظهر قبل الإنترنت. وصارت تلك الجامعات (هارفرد، كامبردج، يال...)، منخرطة في نشاط إسمه "أرقص رسالتك للدكتوراه" (Dance Your Doctorate)، ويرتكز ذلك على أن يلخّص من أعدّ رسالة دكتوراه، محتوى بحثه على هيئة رقصة. ثم يصوّرها في شريط فيديو، ليُبثّ عبر الإنترنت.

لماذا لم يحصل ذلك قبل الانترنت، وقبل "يوتيوب" الذي يملكه "غوغل"؟ الأرجح أن الكلمات تجيب عن نفسها بنفسها.

إلى ذلك، تعود بعد أيام قليلة إلى الواجهة جائزة "نوبل"، ذات المعايير العلمية الصارمة. وحمل زمن الانترنت لتلك الجائزة مفاجأة مليئة بالفرح والمرح والإثارة. فمع انتشار الشبكة العالميّة، ظهرت جائزة "إغ نوبل" (Ig Nobel) ويشير الاسم إلى الصوت الذي يصدر مع الضحك. وتمنح الجوائز لبحوث تتقصد أن تجمع الضحك والعِلم. وفي السنة الجارية، فازت بحوث عن الشبه بين القطة والماء لأن جسمها يمكن وضعه في كوب زجاج، وآخر عن سبب تطاير الماء من فنجان القهوة عندما يسير حامله إلى الخلف!

ترفع "إغ نوبل" شعاراً واضحاً لها "لنجعل الناس يضحكون، ثم نحثّهم على التفكير". وتبيّن أنها لا تسخر من العِلم، بل ترفع من شأنه عبر مزجه مع ضحكات الناس العاديين وحياتهم اليوميّة. أليست كل ظاهرة السوشال ميديا نقلاً للمزيج الهائل للحياة اليوميّة للناس عبر الإنترنت؟ واستطراداً، ألم يوصف باراك أوباما بأنه أول رئيس للسوشال ميديا؟ ألم يكن أول من جعل "يوتيوب" منصة للخطابات الرئاسيّة، فتكون إلى جانب ما لا يخطر في البال من أشرطة؟ ولا داعي للحديث عن دور الإنترنت في رئاسة دونالد ترامب، على رغم أنّ شدّة اختلاط الجد بالضحك يجعل من تلك الرئاسة دراما مأساويّة يوميّاً، وعبر الإنترنت أيضاً!

إذاً، وعبر "غوغل" نفسه، وبالطريقة عينها وعلى الشاشة نفسها واستناداً إلى التقنيات وقواعد البيانات نفسها، يمكن لأي شخص الوصول إلى أقسى العلوم صرامة، ومواقع الجنس الإباحي، وشبكات الهاكرز وغرف تجنيد الإرهابيّين، وغيرها.

في أقل من عقدين، بدّلت الألياف الضوئيّة لشبكة الويب ومحركات البحث التي يتصدّرها "غوغل"، شيئاً كثيراً من الحياة على الأرض. ويسير الحديث كثيراً عن نشر المعرفة، وسهولة الاتصال، لكن هناك أيضاً ذلك المزاج الذي لم يكن شائعاً قبلها، من المزج العميق بين الخفة والصرامة، والرقص والعلم، والجديّة والهزل وما إلى ذلك. ولم يستوف المقال سوى القليل من جوانب تلك الذائقة التي تحتاج نقاشات أشد اتساعاً، وربما أكثر مرحاً أيضاً!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها