السبت 2017/09/23

آخر تحديث: 12:14 (بيروت)

"إرحموا فريدة"... فالأمّ هي التي تستحق التوبيخ

السبت 2017/09/23
"إرحموا فريدة"... فالأمّ هي التي تستحق التوبيخ
فريدة ضحية أمها، وإنه لأمر شديد القسوة أن تصبح ضحية مواقع التواصل الاجتماعي
increase حجم الخط decrease
ما إن ظهرت فقرة الطفلة المعجزة فريدة في مواقع التواصل الاجتماعي، في مقطع فيديو لا يزيد عن الدقيقة، حتى وجد مشاهدوه فرصة مواتية لإحداث ضجيج جديد، مفاده أن هذه اللقطة لا يمكن أن تمر من دون أن تنزل المدفعية الثقيلة للسخرية كلاماً وتعليقات وفيديوهات و"ميمز"، حتى تُستغل الواقعة لآخر قطرة فيها، ثم إذا فقدت الكوميديا بريقها في الحكاية، نسيها الجميع.


الطفلة تتكلم بثقة تناسب سنها الذي لم يتجاوز السادسة، و"برافو" على لسان أمها كافية طبعاً لتشعر بالطمأنينة. غير أن هذه الأم، لم تتوقف عند "برافو"، وقد تحركت وذهبت يميناً ويساراً حتى تجد لابنتها مكاناً على الشاشة، لتقول فيه بحسب ضلالاتها إن فريدة عبقرية من العباقرة.
لكن هذه المرة، السخرية ليست من قدرات الطفلة، بقدر ما هو على "الشو" الذي لم يكتمل، وعلى المادة الترفيهية المنتظرة التي تحولت إلى كارثة موثقة على الهواء، وهو ما دفع الإعلامية إيمان الحصري، مقدمة الفقرة، للاعتذار على حسابها الشخصي في فايسبوك، قائلة: "نعم وقعنا في شرك سيدة ادعت بمستندات، لا أحد يعلم حتى الآن كيف حصلت عليها، ومدى صحتها، أن بنتها عبقرية ومعجزة، كان وما زال هدفنا ونيتنا من هذه النوعية من الفقرات أننا نقدم في البرنامج نماذج حلوة، وناجحة ومختلفة ندعمها ونساعدها، وده عملناه كتير مع أطفال وشباب موهوبين فعلاً في حلقات سابقة. طبعاً هناك تقصير كبير من شخص لم يقم بعمله في عملية البحث والتدقيق والتأكد من شخصية الضيفة، ومدى دقة روايتها وصحة الشهادات العديدة التي أحضرتها، والخاصة بحصول الطفلة على جوائز محلية ودولية رشحتها لأن تكون ثاني أذكى طفلة على مستوى العالم، وبالتالي تحولت الفقرة من محاولة دعم ومساندة وتقديم موهبة حقيقية إلى فقرة كوميدية ضحيتها طفلة صغيرة وأم مضطربة تسبب ضغطا رهيبا على طفلة لم يتعدّ عمرها الست سنوات لتصبح معجزة وعبقرية بالعافية".

الاعتذار الشجاع من إيمان الحصري، هدأ موجة السخرية قليلاً، لكن تعليقها أوضح كيف يمكن لأم أن تجبر ابنتها على أن تكون ما ليست عليه لترضي طموحاً ما في عقلها. والدة فريدة لم تتوقف عن الدفاع عن ضلالاتها بأن طفلتها عبقرية وحاصلة على معدل ذكاء أكبر من آينشتاين، وردت مطولاً أيضاً، كما نشرت "المصري اليوم" بشهادات رسمية تفيد بأن طفلتها عبقرية، قبل أن تتوجه إلى السوشال ميديا مطالبة الساخرين ارحموا فريدة.

الإعلام عموماً يتلهف لمثل هذه النماذج، والأمر ليس حكراً على الإعلام المصري وحده. ستيف هارفي، المذيع الأميركي الشهير، وإلين ديجينيريس وغيرهما، إستضافا عدداً كبيراً من الأطفال يحملون سمة مميزة للغاية، ما أظهر القدرة على حسابات كبيرة في زمن قياسي، أو معرفة أعلام كل بلدان العالم وعواصمها، أو كل أسماء كل الرؤساء الأميركيين. 

الفيديوهات في "يويتوب" تتخطى القدرة على سردها، وجميعها موجودة بالطموح نفسه. كما أنها لا تختلف كثيراً عن الحفاوة العربية والإسلامية الكبيرة بأطفال في عمر فريدة يحفظون القرآن كاملاً، وتستضيفهم البرامج ذائعة الصيت، بل لعل فكرة الطفل الذي يقوم بما لا يتوقع من سنه من المواد الترفيهية الأكثر رواجاً في التلفزيون، على مرّ عصوره.

غير أنه في مصر، إكتسب طابعاً يناسب عصر الضلالة السياسية الحالي. ففريدة ليست جديدة على الذهنية الإعلامية وقد سبقتها عشرات الأخبار في المواقع والصحف عن "طفل مخترع"، وتحدثت عن عشرات الأطفال عبر السنوات الأخيرة الذين اخترعوا اختراعات عجيبة وغريبة تحتفي بهم صحافة هي في نشرها لهذه الأخبار تكون واحدة من اثنتين، كلاهما مصيبة، فإما بالفعل تصدق أن ثمة اختراعات حقيقية، أو أنها تنشر هذه الأخبار لمجرد جذب القارئ، من دون الانتباه إلى الإساءة الواضحة في معاملة الأطفال في هذه الأخبار.

هو نوع من التعدّي والإساءة، كانت الروائية الألمانية ألفريدا يلينيك في روايتها "عازفة البيانو" قد تنبهت إليها، وهي أن إساءة معاملة الأطفال ليست حكراً على الطبقات الدنيا بإجبارهم على النزول إلى سوق العمل، لكنه يمكن أن يحدث في أطفال البرجوازية أيضا بإجبارهم على تعلم رياضات غير مرغوبة أو عزف آلات من دون شغف بها إلا رغبة الأهل في ملء تصوراتهم عن "الفرد المثالي".

غير أن هذه الإساءة، اتسعت في عصر الإعلام والإنترنت إلى الطموح في جعل الأطفال نجوماً ومشاهير، كما في العديد من تلفزيونات الواقع الأميركية والبرامج والمسلسلات، وليس أدل على ذلك من القضية المثارة أخيرا من الممثلة الأميركية "أريل وينتر" –التي تبلغ من العمر 19 عاما الآن- ضد والدتها التي اتهمتها بأنها أجبرتها على التمثيل في سن صغيرة، ما يعني أن الصورة البراقة لأطفال أذكياء جميلين على الشاشة وراءه الكثير من القتامة.

فريدة ضحية أمها، وإنه لأمر شديد القسوة أن تصبح ضحية مواقع التواصل الاجتماعي، إنتصاراً للإفيه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها