السبت 2017/09/02

آخر تحديث: 11:55 (بيروت)

"بيتكوين": يوتوبيا طوَّعها السوق

السبت 2017/09/02
"بيتكوين": يوتوبيا طوَّعها السوق
الأحلام بمبرمجين يكونون ثوريي المستقبل، ستلحق بطموح سان سيمون في صناعيين ينهضون بعالمه الاشتراكي الجديد
increase حجم الخط decrease
في نهاية أكتوبر2008، نشر مستخدم إلكتروني مجهول الهوية إلى اليوم، يحمل الاسم الرمزي "ساتوشي ناكاماتو"، نصاً من تسع صفحات، يصف فيه تصميماً مقترحاً لعملة إلكترونية، وذلك ضمن القائمة البريدية للمهتمين بـ"الكريبتوغرافي" (علم العمليات المشفرة). لم يكن مقترح عملة "بيتكوين" فكرة جديدة على الإطلاق، فمنطق لا مركزية إنتاج القيمة وتبادلها لطالما شغلت منظري الفوضوية منذ القرن الثامن عشر. وفي مطلع الثمانينات من القرن الماضي، كانت قد بدأت محاولات، في دوائر البرمجة الراديكالية، لتأسيس أنظمة لتبادل القيمة اللامركزية. لكن فرادة مشروع ناكوماتو يكمن في قدرته على تأسيس بنية تكنولوجية تضمن ما عجز الاسلاف عن تحقيقه، أي الثقة. فعمليات التبادل المالي في صورتها التقليدية، كالتحويل المصرفي من حساب إلى آخر، تتطلب وسيطاً بين طرفين، كما تلزم طرفي التبادل بالكشف عن بياناتهما الشخصية مع هذا الوسيط. لكن الأهم، ان أي عملية للتبادل تعتمد بشكل أساسي، على ضمانة قيمة العملة المتداولة، والتي تقوم بها المصارف المركزية، وتعتمد على السياسات النقدية للحكومات والاقتصاديات الكلية للدول. هكذا، فإن محاولة تجاوز الوسيط، والتحرر من مركزية ضمانه القيمة، لطالما اصطدمت بمعضلة تأطير الثقة والإلزام بين طرفين من دون ضمانة خارجية. كان توظيف ناكاماتو لتقنية سلسلة الكتل، وهي شبكة من سجلات البيانات المرتبطة ببعضها البعض، في تصميم عملته الإلكترونية، قفزة راديكالية استثنائية، ليس فقط في قدرتها على ضمانة عملية التبادل وسريتها بين طرفين بلا وسطاء، عبر سلسلة من العمليات الحاسوبية، بل في طرحها تصوراً لعقد اجتماعي أشمل، تقوم عمليات الحوسبة بضمان بنوده وتنفيذها، بدلاً من الدولة ومؤسساتها الرسمية. 

بدأ تداول عملة بيتكوين في دوائر محدودة، العام 2009، بعد شهور قليلة من إفلاس بنك "ليمان براذرز" في العام السابق، ومن ثم انهيار أسعار سوق الأسهم العالمية. كان تتابع انهيارات البنوك الخاصة، وتدخل البنوك المركزية لإنقاذها، مقدمة لانهيار البنوك المركزية نفسها في دول العالم الأول، في كل من إيسلندا وقبرص، ولاحقاً، لاندفاع كل من إيرلندا واليونان والبرتغال وإسبانيا إلى حافة الانهيار الكامل لولا تدخل البنك الأوروبي. وبينما فرضت اليونان قيوداً على الحسابات والتحويلات المصرفية، واستولت الحكومة القبرصية على 50 في المئة من قيمة المدخرات المصرفية للمودعين، واستعانت الحكومة البريطانية بقانون الإرهاب لتجميد الأصول الأيسلندية، كان منطق الثقة في النظام المالي العالمي وضمانة المصارف المركزية للقيمة وتبادلها قد تعرض لهزة غير مسبوقة، مفسحة الطريق أمام البيتكوين ليكون ملاذاً آمناً، للكثيرين، حتى للبعض ممن لم تعنهم إيديولوجيا اللامركزية أو سرية عمليات تبادل الند للند. 

في مصر، كان نفي نائبي محافظ البنك المركزي جمال نجم، ولاحقاً لبنى هلال، في بيانات رسمية، مؤخراً، للأخبار المتداولة عن الاعتراف بعملة بيتكوين وتقنينها، تأكيداً على اتساع تداول العملة الإلكترونية في مصر، وهو الأمر الذي خرج إلى العلن بعد القبض على طبيب أسنان مصري، في بداية الشهر نفسه، بتهمة "إدارة شبكة للإتجار في البيتكوين". لكن وبالرغم من التجريم، والنفي الرسمي، فإن تداول العملات الإلكترونية، وإن ظل داخل دوائر ضيقة، إلا أنه مستمر في الاتساع يوماً بعد يوم. فمع الانهيارات المتتابعة لقيمة الجنيه المصري، ومعدلات التضخم غير المسبوقة، والقرارات المتضاربة للمصرف المركزي في ما يخص القيود المفروضة على العملات الصعبة والتحويلات المصرفية، بالإضافة لسلسلة من الأحكام القضائية بالتحفظ على أموال الشركات والجمعيات الأهلية، وتجميد الحسابات المصرفية للأفراد وذويهم على خلفيات سياسية، فإن البيتكوين، التي تضاعفت قيمتها عشرات المرات منذ إطلاقها، كانت خياراً مغرياً للراغبين لضمان قيمة مدخراتهم ولو بالكثير من المخاطرة، إضافة إلى غيرهم ممن يخشون أن يكونوا هدفاً للتحفظ على أموالهم لأسباب سياسية أو غيرها. 

لكن وبعيداً من قصص الإفلات من عسف الدولة، وعدم رشادة سياستها المالية، والتي يتم تداولها عن أفراد غادروا البلاد بعدما حولوا مدخراتهم إلى محفظة إلكترونية لا تصل لها يد النظام ولا قرارات محاكمها، فإن قصصاً عن الثراء السريع لمن استثمروا بضع مئات من الدولارات في بيتكوين، قبل أن تتحول قيمة استثماراتهم إلى عشرات أو مئات الألوف في بضع سنوات، هي الأكثر إغراء، لأسر تخلى أعضاؤها جميعاً، أو البعض منهم، عن الوظائف التقليدية للتفرغ للمضاربة بالعملات الإلكترونية، كمصدر أساسي للدخل. 

وفيما تتابع التحذيرات من انفجار فقاعة العملات الإلكترونية، والتي لم تعد تقتصر على البيتكوين، فإن معضلة المنظومة التي ابتدعها ناكاماتو لا تمكن في إمكانية انهيارها فجأة، وهو أمر وارد الحدوث بالفعل، لكن في خيانتها لوعودها الإيديولوجية. فالتقنية التي يفترض أنها كانت تعني التأسيس لاقتصاد تشاركي لامركزي، تحول إلى أداة للمضاربة الرأسمالية بقواعد السوق نفسها، المفترض فيها مقاومتها. وكذا فإن النظام الذي كان مصمماً لتنظيم عمليات تبادل القيمة بين أنداد، تحول إلى وسيط لاختزانها ومراكمتها. ويوماً بعد يوم، يدجن داخل المنظومة الرسمية. فغير تقنين التعامل بالعملات الإلكترونية في بعض الدول، وفرض قواعد قانونية ملزمة بكشف بيانات المتعاملين بها وعلى عملياتها، فالصناديق الاستثمارية التي تتسم بمخاطر العالية سرعان ما ضمتها داخل حزم مضاربتها. 

لا يعود تداعي وعود تكنولوجيا الاقتصاد اللامركزي، بالضرورة، إلى عيوب تقنية يمكن تجاوزها مستقبلاً، بل بالأحرى إلى هشاشة أسسها الإيديولوجية. فافتراض طوباوي بأن تغييراً للعالم، وشكل عمليات تبادل القيمة وإنتاجها فيه، ممكن ببساطة عبر تعديل بنيته التقنية، يعيد السقوط في أوهام الاشتراكيات الطوباوية، السابقة على الماركسية. فالسان سيمونية، على سبيل المثال، وفي تجاهلها لمعضلة علاقات القوة، اكتفت بفانتازيا التخلص من السلطة بالكامل، واستبدالها بأدوات الثورة الصناعية التقنية والمشاريع الهندسية الضخمة بوصفها أداة ومحور إنتاج عالم أكثر عدالة وتشاركية. وحتى مع تجاوز بعض من منظري اليوتوبيا الرقمية والحتمية التكنولوجية، المعاصرين، لطوباوية سابقيهم، فإن اختزالهم الأفكار الماركسية عن الدور الجوهري لأدوات الإنتاج وملكيتها، عجز عن إدراك الشق الأهم من نظرية الإنتاج وهي علاقاته، والتي لا تقتصر بالضرورة على التقنية وحصافتها، بل تتداخل معها علاقات الطبقة والسلطة والقانون وغيرها. 

في النهاية، لا يمكننا نفي الإمكانات الجذرية والعملية التي تتضمنها التقنيات الرقمية، لكن مآلات البيتكوين وغيره من التكنولوجيات التشاركية واللامركزية، تؤكد مرة أخرى، على أن التغيير الجذري للعالم يتطلب مواجهة علاقات القوة، وتفكيكها، على المستوى السياسي، وإن الأحلام بأن يصبح المبرمجون ثوريي المستقبل، وأن تصبح الشبكات التقنية ساحة ثوراتهم، على الأرجح ستلحق بطموح سان سيمون بأن يكون الصناعيون ومهندسو الإنشاءات صنّاع عالمه الاشتراكي الجديد. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها