الأحد 2017/08/20

آخر تحديث: 16:44 (بيروت)

"عقيدة بوتين" في خطاب انتصار الأسد

الأحد 2017/08/20
"عقيدة بوتين" في خطاب انتصار الأسد
increase حجم الخط decrease
ليس معروفاً تماماً إن كان خطاب النصر الذي ألقاه الرئيس السوري أمام مؤتمر وزارة الخارجية والمغتربين السنوي، مكتوباً بعناية فائقة من آدوات البروباغندا الروسية، الوصية على النظام إلى أجل غير مسمى، لكن التحليلات التي قدمها الإعلام الرسمي بعد الخطاب مباشرة، تفوقت في هزليتها وسوريالتيها على ما تقدمه وكالة أنباء "سبوتنيك" الشعبوية الممولة من الكرملين، في صياغتها للخطاب العالمي المضاد للغرب والمبشر "بولادة عالم جديد".

وأطلقت "الإخبارية السورية" على الخطاب تسمية "عقيدة الأسد" مشبهة إياه بـ"عقيدة بوتين"، ولا يعني ذلك أن الزعيمين يتمتعان بصفات الصلابة والوحشية والدموية والقمع وجنون العظمة، مثلما يتبادر للأذهان لأول وهلة، بل هو توصيف للنقاط الخمسة التي لخص بها الأسد، محددات السياسة الخارجية في الفترة القادمة، ومقارنتها بخطاب تاريخي لفلاديمير بوتين العام 1999، والتي أتبعها بخطاب آخر أواخر العام الماضي أمام البرلمان الروسي، حدّث فيه تلك العقيدة، فيما وصفتها وسائل الإعلام الروسية حينها بأنها "ميلاد نظام عالمي جديد" وفقاً لرؤية بوتين القائمة على الشراكة مع العالم الغربي في احتواء النزاعات ومكافحة الإرهاب.


وحاول الإعلام السوري الإيحاء بأن خطاب الأسد ليس استنساخاً للخطاب البوتيني أو مجرد تماه معه من دون إضافة حقيقية، بل هو مكمل له وتأكيد له من منطلق أهمية الشرق الأوسط ومكانة سوريا التاريخية، في استمرار للوهم الرسمي بأن سوريا هي مركز العالم، وهو ما تجلى في رفض قناة "الفضائية السورية" لتسمية الشرق الأوسط: "الغرب يسمينا الشرق الأوسط لكننا نحن مركز العالم ونحن من يقرر ذلك وليس هم".

يمهد كل ذلك للحديث عن النظام العالمي الجديد، وهو نقطة متكررة في خطابات الديبلوماسية الروسية مؤخراً، بما في ذلك تصرحيات بوتين في عقيدته الجديدة أو تصريحات وزير خارجيته سيرغي لافروف في مؤتمر ميونيخ الأمني في وقت سابق العام الجاري، والتي تدور حول "التشارك مع روسيا والصين" والعودة بالعالم قروناً إلى الوراء من أجل استعادة النظام السياسي "الرجعي" الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر. ما يقوله الإعلام السوري هنا هو "إن سوريا أجبرت الولايات المتحدة والعالم الغربي على القبول بالرؤية الروسية" وبالتالي "يضع خطاب الأسد حجر الأساس للمجتمع الدولي الجديد"!

وهكذا أسهبت التحليلات في توصيف نقاط التشابه بين العقيدتين، باعتبارهما قائمتين على أسس "وطنية"، حيث ترتكز عقيدة بوتين على القومية الأرثوذكسية، مقابل القومية العربية التي يقوم عليها خطاب الأسد والتي شدد عليها، لكن "الإخبارية" شرحت "برحابة صدر" أن القومية العربية لا تعني التعصب مثل بقية القوميين العرب، بل هي قومية متسامحة ومرحبة بالأقليات من المسيحيين والأكراد الذين ساندوا النسيج العربي الغالب على الدولة العربية لقرون طويلة! مثلما هو الحال في روسيا التي تراعي التنوع المذهبي والإثني فيها!

وهنا، يميل الإعلام الرسمي إلى التأكيد على أن مشاريع الفيدرالية والتقسيم والاستقلال مرفوضة ولن تمر، لأنها مدعومة فقط من الولايات المتحدة، في إشارة للرغبات الانفصالية التي يتحدث عنها أكراد سوريا بالتوازي مع استفتاء مرتقب الشهر القادم لاستقلال إقليم كردستان العراق، ثم الحديث أن المعركة مستمرة مع الشركاء للقضاء على الوجود الغربي وأتباعه في سوريا التي "تنظفت" من عملاء الغرب "القذرين"، أي المعارضين السياسيين للنظام.

وبما أن النظام "ديموقراطي" و"علماني" و"منفتح" فإن على إعلامه تفسير العداء للمعارضة "القذرة"، ويأتي ذلك بشكل هزلي كاريكاتوري، فلا مانع من الارتهان للخارج، كما يفعل النظام نفسه، بل يجب فقط أن يكون "هذا الخارج محترماً وعليه القيمة مثل روسيا وليس أميركا دولة مناجم الفحم"، وبالتالي خلص الإعلام السوري بعبقرية فذة إلى أن مشكلة المعارضة السورية، كانت في اختيار حلفائها واصدقائها: "لو اختاروا روسيا حليفاً لهم لرحبنا بهم"، وعدا عن ذلك "فلا مكان في سوريا المستقبلية للمعارضين الخونة المرتهنين للغرب".

السؤال الذي لا يطرحه الإعلام الرسمي هنا، يتعلق بمدى التغيّر الذي طرأ على النظام، كي يقدم رئيسه مبادئ جديدة تحدد هويته للعقود المقبلة، خصوصاً أن الخطاب امتلاً بمقارنات بين النهج الجديد وبين النهج الذي كان متبعاً طوال أربعين عاماً "من تاريخ سوريا"، مع إصرار الأسد على ربط تاريخ البلاد باللحظة التي استولى فيها والده حافظ الأسد على السلطة واعتبار ما سبقها "غير سوري" لأنه كان رهينة للغرب. المضحك هنا أن الأسد نفسه يتحدث عن استعادته للثورة من الثوار أنفسهم وقد يكون ذلك صحيحاً بوصفه يقوم بثورة داخلية ضد مبادئ النظام نفسه الذي تخلى عن كل التوازنات القديمة التي تمتع بها وبات مجرد محافظة إيرانية أو قرية روسية بعيدة في أفضل تقدير.

هذا التغيير الذي لا يتم الحديث عنه مباشرة، يتعلق بالسيادة الوطنية نفسها، والتي كانت عنصراً أساسياً للخطاب الرسمي أمام السوريين والعالم، وباتت اليوم من الماضي مع الارتهان الخارجي الجديد لمحور الحلفاء المكون من روسيا وإيران وحزب الله، أو الثالوث المقدس حسب تسمية الإعلام الرسمي. ويتم التمهيد لهذه الفلسفة الجديدة، في الخطاب وتحليلاته، بدهاء، عبر شكر الحلفاء على مواقفهم وتضحياتهم واستذكارها بالتفصيل الممل، مع التلميح لبقائهم في الأراضي السورية، بفعل الاتفاقات التي وقعها النظام مع روسيا تحديداً في قاعدة "حميميم" وأماكن أخرى، أو بقاء نفوذهم على الأقل بشكل واسع عبر إعادة الإعمار، أي إعطاء تفسير مسبق للسوريين في الداخل، الذين يصدقون كذبة السيادة الوطنية، للمشاهد الأجنبية التي ستبقى في البلاد مع انتهاء الحرب، وتحديداً المليشيات المسلحة.




في ضوء ذلك، يتعامل الإعلام مع كل هذا التعقيد بشيء من البساطة بالقول إن العقيدة الجديدة هي استمرار للديبلوماسية السورية الممتدة لأربعين عاماً، ولهذا أتى "خطاب الانتصار" بهذه الطريقة أمام مؤتمر وزارة الخارجية والمغتربين السنوي الأول، وليس في أي مناسبة أخرى، وكأنه اعتراف بأن النظام ينسلخ عن نفسه كي يحافظ على بقائه ضمن الظروف المتغيرة الجديدة التي تفرض عليه تحالفات معينة باتت تحركه عن بعد لا أكثر. وهو ما عبرت عنه "الإخبارية السورية" بالقول أن الخطاب هو "نهاية تجربة 40 عاماً من الوثوق بالغرب".

بالتالي تصبح الشعبوية الممزوجة بالعداء للغرب هي الماركة المسجلة للخطاب الديبلوماسي والدعائي الأسدي في مرحلته الجديدة التي يريد فيها التوجه شرقاً، قبل التشفي بضحايا الإرهاب في برشلونة وفنلندا كجزء من العالم الغربي البائد: "إنهم يدفعون ثمن سياساتهم الغربية الحمقاء".

ومن نافل القول أن هجوم الإعلام الأسدي على الغرب لا يستند إلى أي منطق، فهو يهاجم الولايات المتحدة على "الإعلام الكاذب" رغم أنه لا يوجد أي إعلام حر في تاريخ سوريا كلها، ويذم وجود "فوارق بين الأغنياء والفقراء" رغم أن معظم موارد البلاد إن لم يكن كلها تتركز في يد عائلة الأسد والمقربين منه فقط، مثل رامي مخلوف، فيما لا يتم حتى توزيع الفتات على عامة الناس، قبل الهجوم على "الانحلال الأخلاقي الغربي" والتبجح "بالاعتدال الديني السوري" رغم وجود بعض المتطرفين دينياً والذين تمت أدلجتهم بسبب "الوهابية السعودية الممولة من الغرب".

بالتالي يمكن استشفاف الكثير من التفاصيل عن مستقبل البلاد في ظل انتصار النظام وضمان بقاء الأسد في السلطة، حيث ستشكل القومية العربية الأيديولوجيا الشعبوية الأكبر باعتبار الغالبية السكانية عربية، مع الابتعاد عن القومية العربية التقليدية والحديث عن القومية العربية المشرقية - الشامية، مع علاقات وثيقة مع محيط سياسي جيد متمثل بروسيا والصين وإيران وحزب الله، مع هامش بسيط للأكراد من أجل الحفاظ "على وحدة الأراضي السورية"، مع جيش هش ومنهك تساعده القوات الأجنبية التي لن تترك البلاد، في ظل معاناة أمنية شديدة بسبب التضييق على الحريات وقمع الأصوات المعارضة، بطريقة مماثلة لما يحدث في روسيا التي تقود "الجهود المناوئة" للقيم الحضارية والإنسانية بحجة "الصراع مع الغرب".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها