السبت 2017/06/03

آخر تحديث: 11:05 (بيروت)

"انتبه ع حالك"

السبت 2017/06/03
"انتبه ع حالك"
... يقولها الرفاق وهم يغادروننا
increase حجم الخط decrease
لطالما تركت فيّ عبارة "انتبه عحالك" نوعاً من العجب حيالها وحيال مقصد قائلها، وهو غالباً ما يكون من الرفاق او الأصدقاء الذين، وما أن يغادروننا أو نغادرهم، حتى ينطقون بها كعلامة على انتهاء الحديث معنا، وتوديعنا بما يشبه النصيحة الأخيرة. فهؤلاء يدعوننا، وهنا، مكمن العجب، إلى فعل بديهي، لكنه، على ما يبدو، ولأسباب وظروف مختلفة، صار التذكير به في اللسان العام ضرورياً للغاية، كما لو أنه غدا نادراً، مثلما أن ممارسته أضحت شائكة للغاية.


لم أتخلص من عجبي عندما كنت أسمع تلك العبارة، بل إن تلقيها كان، وباستمرار، يحثني على التوقف عندها، ذلك، إلى أن قرأت حواراً مع بيتر سلوتردايك يشير فيه الى أن عبارة "انتبه عحالك" هي دليل على أن الشخص، الذي يعيش وحده، هو، فعلياً، لا يعيش وحده، بل مع حاله، وعليه، أن يتعامل معها كأنها شخص آخر، يحتاج الى الاجتماع به، والانتباه "عليه". وهذا ما يمكن عدّه، في وقتنا الراهن، فعلاً عويصاً وصعباً، لا سيما أنه يستلزم جهداً وجلداً على مستويات ومراحل متوزعة، استعدادية واكتسابية وتخطيطية وسياسية على الاقل، بالاضافة الى كونه دائم التعرض للتعطيل أو الحرف، أكان ذلك نتيجة الاغتراب الشديد عن "الحال"، أو الخوف منها، أو عدم تحمل آثار الإلمام والإهتمام بها على الأغيار القريبين أو البعيدين.

صلتنا بحالنا هي التي تصيغ وتركب صلتنا بمحيطنا، فمثلما نتعامل معها، نتعامل معه. على أن التهديد الأول لهذه الصلة يجري داخل هذا المحيط، الذي يكتسحه رهاب الوحدة، بالتالي، هو يسد المدخل إلى الالتقاء بالحال، يسد المدخل إلى الانتباه عليها، وبذلك، يدفع آهليه إلى إقصائها بشكل كلي أو جزئي. فما أن تظهر، وتحثهم على النظر فيها، وأخذها على محامل غير النكران أو الطرد، يتصورون أنهم شرعوا، وعلى عكس ما هو وضعهم،  في التأزم، في الاعتلال، في الموت، وعندها، قد يسرعون إلى نفيها من جديد.

فليس هناك شيء أكثر تعاسة من إعلان أحدهم أمامنا بأنه "وحيد، لذا، أريد أن أدخل في علاقة عاطفية". فحينها، وفي الكثير من الأحيان، تنقلب هذه "العلاقة" إلى ما يمكن أن نسميه، وبلغتنا المحكية، "علقة"، حيث يشعر بأن غيره، الطرف الثاني، إما يرطمه بـ"حاله"، أي بما لا يريد الارتطام به، أو ينهيه عنها، أو يريد أن يقبض عليها، أو يرغب في طمسها لأنه، في الأساس، مذعور منها. تتعدد أشكال وأنماط هذه "العلقة" التي تقوم بنفي الحال، بدرئها، بالخوف من الالتقاء بها قبل الالتقاء بأحوال الأغيار بعد أن تحضر وتصبح متينة، ويكون لديها فائض ما تتشاركه معهم.

إذ أن علاقة حال بحال تقوم بمزاولة الفائض بين كائنيها، بما تدعوه الكاتبة ديما حمادة "التفاوض القدراتي"، وليس بسد الوحدة بغيرٍ، نجعله سوراً بيننا وبين حالنا، بحيث أننا، وفي لحظة لاحقة، سنعمد إلى تحطيمه، أو قد نرمي عليه كل رواسبنا الراكدة، أو سنحاول القفز فوقه، أو إنكار رفعه، أو تحويله إلى مرآة، نتطلع فيها، ونتطبع بالظاهر عليها. في كل الأوضاع، سنمضي من "علقة" صغيرة إلى أخرى أكبر، حتى تصبح المخارج معدومة، وذلك، حتى لو لم ندرك ما نحن عليه.

الحديث يطول، لكنه، من الممكن أن يتوقف مؤقتاً على ما قاله المعلم ديفيد كوبر:

"إنه من المؤكد أنه، وعندما نرجع إلى حالنا، يتشكل بصرنا بسلسلة من الانكسارات عبر الأغيار، أكانوا من داخل الأهل أو من خارجهم، أكانوا داخل روحنا أو خارجها حتى لو لم ننتبه إلى هذا الاختلاف، نحتفظ بالإحساس به على الأقل.

غير أن، وعندما تلتقي الأنا أخيراً بحالها في الصحراء الجوانية، كل أغياره يتلاشون بإشعاعات روحها، وتمضي وحيدةً في أرض واسعة، حيث تتغذى على نحو فريد من الحجر، الذي ترتشفه، ومن الرماد، الذي تتشربه بمسام جلدها.

وإذا بحثت، في ما بعد، عن واحة، فهي ستخلقها من دموعها وسط كثبان رملها. وبمقدورها أن توجه دعوةً إلى أحدهم لكي تآزره، ويآزرها.

إلا أنها تبقى دائماً في الصحراء، لأن هناك هو رجاء حريتها.

وإذا، في يوم ٍ ما، لم تحتاج إلى حريتها، سيكون هذا ضرب من الحرية أيضاً.

لكن، الصحراء، في كل الحالات، تبقى".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها