السبت 2017/06/24

آخر تحديث: 13:03 (بيروت)

كأني سمكة

السبت 2017/06/24
كأني سمكة
"اقتله وطلاع على البيت، ما بدنا مشاكل".. كانت نكتة وصارت واقعاً، كالنفايات (غيتي)
increase حجم الخط decrease

صديقي الكاتب السوري المقيم في لندن، هرباً من جحيم الحرب والاستبداد، وفي كل مرة نتواصل عبر الفايسبوك، ونتحدث في أمور عامة أو حتى نميمة بيضاء... يطرح عليّ أسئلة حياتية: متى ستغادر الشرق الأوسط؟ متى تحدّد وجهة عالمك الجديد؟ متى تؤمن مستقبل أولادك في التعليم والاستشفاء وحتى الاستقرار العام؟ بشيء من الحيرة، لا أجد جواباً واضحاً وحاسماً على هذه الأسئلة... إذا هاجرت، ماذا سأفعل في ديار الغربة والمنفى؟ في قرارة نفسي أقول أني أحتاج سنوات حتى أتأقلم مع أي مجتمع جديد، عدا عن كراهيتي للاستحصال على فيزا من هنا وجواز السفر من هناك. تسلق جبل أفرست بالنسبة إليّ أهون من صعود الطائرة، والنوم أكثر ملاءمة من البحث عن سجل عدلي، وتشييد برج ضخم أسهل من تكوين صديق جديد (أجنبي تحديداً)... مرة وحيدة، غادرت الحدود اللبنانية إلى دمشق، وما هي إلا ساعات قليلة حتى شعرت بالاختناق وفقدان الهواء، كأني سمكة تغادر بحرها. لست مندفعاً للهجرة، أو ربما أريد في مخيلتي أن أهاجر بطريقة "رومانسية" الى بلاد أعيش فيها بلا كلل أو ملل، وبلا مشقة البحث عن عمل ومنزل. وفي الوقت نفسه، لست مندفعاً البتة للسفر، لا السياحي ولا المعيشي. سبق أن وصلت لقمة الهجرة الى فمي من بلدان الخليج، ثلاث مرات، وتهربت لأسباب سخيفة... أحسب أني أحب الروتين ولا أطيق المغامرة الحياتية. في بعض الأحيان أبرّر لصديقي السوري بأن لدي منزلي وارتباطاتي وعائلتي، ولا أستطيع تركهم. يقول لي إن بشار (الأسد) "لم يترك لي موئلاً للحنين، لقد دمر بيتي في الغوطة الشرقية، والآن أشعر بالارتياح في لندن، وخارج كل قيد"...

ومع أني اعيش روتيناً يتراوح بين البيت والعمل، أحب البقاء في لبنان على طريقة نجيب محفوظ القاهري، ويروادني سؤال دائم: ماذا أفعل في هذا البلد؟! البلد الذي يربّحني حكامه وقادة عشائره ولصوصه، جميلاً بـ"وعد" كاذب عمره سنوات، أنهم سيأتون بالكهرباء 24 على 24، أو بأنهم سيزيدون سرعة الانترنت أو يحتفلون بإنجاز قانون انتخابات لانتخاب أنفسهم، أو أنهم سيحققون العدالة، ويعيدون الاعتبار للتعليم الرسمي والجامعي ولدور الجيل الجديد...

ماذا أفعل في هذا البلد، وفي كل يوم أذهب الى عملي، أحاذر ألغام السرعة الجنونية على الاوتسترادات والمنعطفات وحتى في الزواريب، أو الرصاص الطائش في المناسبات السياسية والأعراس. ماذا أفعل في جمهورية الموز والخس؟ لقد كان الناس يتداولون نكتة تقول "اقتله واطلع على البيت، ما بدنا مشاكل"، بدت هذه النكتة واقعاً يومياً، بدءاً من "النسكافيه مش طيب" في جريمة قب الياس التي ذهب ضحيتها طلال عوض وخليل القطان، إلى "كنت معصب" في جريمة روي حاموش في جل الديب، أو "مستعجل" كما في جريمة سارة سليمان. كأن القتل المتعمد واليومي والثأري و"الشرفي" و"الأخلاقي" والطائفي، بات مؤسسة اعتاد اللبنانيون أخبارها، وأصبحنا نعيش زمن "القتل العادي" (في استعارة من رواية "الشقاء العادي" لبيتر هندكة). ولم أستغرب أن تصف جريدة لوموند لبنان بـ"الغابة"، فهو غابة بوحوش مختلفة.

ماذا أفعل في بلد يمكن ان يستحوذ على كل الأرقام القياسية والغينسية في نسب تلوث المزروعات البقاعية والبحر والمياه الجوفية والجو والعمران، عدا عن بؤس السياسة وعربدة بعض الإعلام وركاكة الغناء وحمى عمليات التجميل وفساد الإدارات وجموح المسلحين "المدنيين"، واستسهال تجارة المخدرات والكبتاغون والإجرام والفوضى والإتهام بالارهاب والتخوين والتوريث السياسي والإثراء غير المشروع ورياح المحاور وأمراء الحرب وهذيان السيارات..

وبرغم كل ما حصل ويحصل، يطير رئيس التيار الوطني الحر، السيد جبران باسيل، رجل العهد، والمنظّر الأول في حب الوطن (والطائفية)، في أصقاع الأرض، في جهاتها الأربع، من أوروبا الى إفريقيا، ومن البرازيل إلى أستراليا، يطلب من المتحدرين من أصول لبنانية، العودة للبحث عن هويتهم وتعلقهم بالأرض والوطن واستعادة جنسيتهم...
أي أرض وأي وطن، يا مان...؟!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها