الجمعة 2017/05/26

آخر تحديث: 15:59 (بيروت)

"قيامة أرطغرل": تلفزة الأمة وتتريك الإسلام

الجمعة 2017/05/26
increase حجم الخط decrease
تدور أحداث الفيلم التركي، "فيزونتيلي" (إنتاج 2001)، في سبعينيات القرن الماضي، في إحدى قرى الأناضول النائية، التي يصلها وفد حكومي بأول جهاز تلفزيوني لاستقبال البث الوطني. يوكل عمدة القرية مهمة تثبيت هوائي الاستقبال، إلى كهربائي غريب الأطوار، والمحاولات المتتالية لاستقبال البث، والتي يحاول عرقلتها مالك السينما الوحيدة بالقرية وشيخها، تنتهي بالنجاح. لكن التلفزيون الذي يجتمع سكان القرية لمشاهدته في بيت العمدةن سرعان ما يحمل أنباء مزعجة، فمع تدخل القوات التركية في قبرص، تعلن نشرة الأخبار أسماء القتلى من الجنود الأتراك، ومن بينهم ابن العمدة.

الفيلم الذي نال ثلاث جوائز ذهبية في مهرجان أنطاليا السينمائي، ويعدّ واحداً من أنجح الأفلام السينمائية التركية جماهيرياً، سعى في إطار رسمه للصراع بين التيارات المحافظة والعلمانية في المجتمع التركي وتعارض المصالح الرأسمالية داخله، إلى طرح التلفزيون بوصفه تكنولوجيا لصناعة الأمة، وأحد انجح وسائل تجييشها. فالقرية المعزولة، والبعيدة جداً من العاصمة، يقربها البث التلفزيوني إلى المركز ويوحدها به. فالعمدة أخيراً، ومعه كل أبناء القرية، يستطيع أن يرى ويستمع إلى رئيس الوزراء في الوقت نفسه مع سائر المواطنين. يصاب سكان القرية بخيبة الأمل، حين تنتهي واحدة من محاولات تشغيل التلفزيون، بالتقاط بث التلفزيون الإيراني. فالقرية التي تقع بالقرب من الحدود الإيرانية، يبدو ولاؤها وهويتها محكومين، لا بالموقع الجغرافي، بل بالمحطة الوطنية التي تستقبلها، والتي توحد أبناءها أمام شاشتها، سواء كانوا يشجعون فريقها الوطني لكرة القدم أو ينعون شهداءها في المعركة.

لكن الصراعات بين المحافظين والعلمانيين، والتي تنبأ الفيلم ضمناً بتراجعها أمام سطوة مركزية التلفزة والإعلام الكثيف، تبدو وكأنها لم تتلاشَ، بل على العكس، انتقلت إلى شاشات التلفزيون نفسه. يأتي الموسم الثالث من المسلسل التلفزيوني "قيامة أرطغرل"، الذي يعرض حالياً، في إطار صراع ممتد حول تمثيل الأمة وتاريخها في تركيا.



فالمسلسل الذي يروي سيرة أرطغرل، والد سليمان شاه، مؤسس الدولة العثمانية، وحروبه مع الصليبيين والمغول والبيزنطيين، يُنظر له بوصفه رداً فنياً على مسلسل "حريم السلطان" الذي  لطالما انتقدته قيادات "حزب العدالة والتنمية" بوصفه تشويهاً لتاريخ الخلافة العثمانية وسلاطينها. كما لا يخفي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دعمه الواضح لمسلسل "أرطغرل". فإضافة إلى زيارته والسيدة الأولى لموقع تصوير المسلسل، واستقبال نجومه بزيهم التاريخي في ذكرى الاحتفال بفتح القسطنطينية، فإن أردوغان تدخل في الجدل الدائر حول المعاملة غير اللائقة التي تعرض لها طاقم المسلسل في أحد المهرجانات الفنية التركية، مصرحاً بأن المسلسل: "ردّ هام على من يستخفون بتركيا وشعبها".

تذهب جريدة "نيويورك تايمز" في مقال تناول الشأن الداخلي التركي قبل زيارة أردوغان الأخيرة إلى الولايات المتحدة، إلى أن "قيامة أرطغرل" موجّه إلى الداخل لخدمة خطاب "حزب العدالة والتنمية" وأيديولوجيته. فسلسلة المؤامرات الداخلية والخارجية ضد بطل المسلسل تؤكد خطاب الخطر الذي لطالما استخدمه أردوغان، وتوسع في استخدامه بعد الانقلاب الفاشل. فالتهديد الذي تتعرض له تركيا من الخارج والداخل، هو امتداد لمعركة طويلة وتاريخية ترجع إلى لحظة تأسيس الأمة نفسها.

لكن التوظيف السياسي المباشر للمسلسل، لا يجب أن يقودنا إلى افتراض أنه مجرد أداة إعلامية تم توظيفها حزبياً في معركة بين الإسلاميين والعلمانيين. فمقال "نيويورك تايمز" يعود ليقول أن المسلسل لا يعكس بالضرورة صعوداً في الخطاب الإسلامي، بل يعكس طموحاً قومياً يستند إلى الماضي. وبالفعل، يشترك المسلسل مع الإنتاج الدرامي التاريخي التركي الكثيف حالياً، في الترويج لهوية تركية قومية تاريخية، يتفق كل من الأتاتوركيين والإسلاميين عليها مع الاختلاف على تفاصيلها المتعلقة بموقع الإسلام منها وصيغته. وبالرغم من أن المسلسل يزخر بالإشارات الإسلامية في أحداثه وحوارات أبطاله، إلا أن تلك الإشارات لا تتجاوز صورة الإسلام في صيغته الأتاتوركية، كأحد مقومات الأمة التاريخية، لا محورها. ففي ضوء أحداث "قيامة أرطغرل" يبدو انتصار الأمة التركية في لحظة تأسيسها الأول راجعاً للبطولة الأسطورية والشجاعة الاستثنائية لقادتها وأبنائها الذين أعدّهم القدر لإنقاذ الإسلام من كبوته، لا العكس.


وهكذا، فإن المسلسل يبدو موجهاً للخارج مثلما هو موجه للداخل أيضاً، بشكل منفصل عن حقيقة أن تركيا هي أكبر مصدر للدراما التلفزيونية في العالم بعد الولايات المتحدة، لأسواق تشمل أكثر من مئة دولة. ففي شهر شباط/فبراير الماضي، فاجأت فرقة الشرطة البحرينية الرئيس التركي، في زيارته الرسمية للبلاد، بعزف المقدمة الموسيقية للمسلسل. وفِي الشهر التالي اصطحب أردوغان بعضاً من طاقم المسلسل معه في زيارته لدولة الكويت. ولا عجب في ذلك، لأن شعبية المسلسل وصلت إلى هناك، إلى حد أن لافتات ظهرت في الطرق، ومن خلالها تنعي قبيلة "الكايه" الكويتية مقتل "بامسي" وهو أحد مقاتلي أرطغرل المقربين في المسلسل: "أرطغرل لا تصالح، واشهد أنك فقيده يا بامسي".

وبالرغم من أن المسلسل لاقى نقداً لا بأس به من المعلقين العرب ومن الإسلاميين منهم تحديداً، إلا أنه يحظى بنسبة مشاهدة عالية في الدول العربية وفي مقدمتها السعودية ومصر والجزائر. وتشمل قائمة الانتقادات هنا تغييباً كاملاً للعرب في المسلسل، حتى حين تدور أحداثه في مدينة عربية مثل حلب، إضافة للتجاهل الكامل للخلافة الإسلامية في ذلك الوقت، وكأن الإسلام ومهمة التصدي لأعدائه كانت محصورة في قبيلة أرطغرل وحدها. إلى جانب مغالطات تاريخية وفقهية أخرى واعتراضات على فكرة الاختلاط بين الرجال والنساء في المسلسل، وعلى تقليد التقنيات الأميركية في تجسيد مشاهد العنف والمعارك.

لكن ذلك كله لم يمنع أصحاب تلك الانتقادات من مديح المسلسل، بوصفه استعادة لقيم الإسلام واستنهاض الأمة الإسلامية عبر تذكيرها بتاريخها، والأهم من ذلك استخدام الدراما لصالح الإسلام وهي السلاح الذي لطالما استُغلّ ضده في السابق.


لكن الاحتفاء العربي المبالغ فيه بالمسلسل، حتى من بين منتقديه، يقودنا إلى إدراك الدور المعقد الذي تلعبه الدراما التلفزيونية التركية اليومن في مقابل محلية الدور الذي كان يلعبه التلفزيون في فيلم "فيزونتيلي" في السبعينيات، كتكنولوجيا لصناعة الأمة وتوحيدها. فتكنولوجيا الساتلايت والإنترنت وعولمة المنتج التلفزيوني التركي، منحت الدراما التركية دوراً أكبر في خدمة توسع مفهوم الأمة التركية خارج حدودها والترويج لدور ريادي تركي في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.

لكن وفيما يبدو مسلسل "قيامة أرطغرل" النموذج الأكثر مثالية لذلك الدور الترويجي في الداخل والخارج، إلا أن الطبيعة المعقدة للمنتج الفني وطرق تبنيه وقراءته وتوظيفه، تتركنا بلا إجابة أمام احتمالات عديدة: فهل أرطغرل يقوم بأسلمة تركيا؟ أم بتتريك الإسلام؟ وهل حقاً يوظف الإسلام، الميديا، لصالحه؟ أم أن الدراما التركية تستغل الإسلام كواحدة من أدواتها التسويقية؟ أي هل تمت أسلمة التلفزيون أم تلفزة الأمة وإسلامها أيضاً؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها