الجمعة 2017/05/26

آخر تحديث: 16:03 (بيروت)

استهلاك النهاية

الجمعة 2017/05/26
استهلاك النهاية
increase حجم الخط decrease
في حين تصفحي "تويتر"، وقعت على خبرٍ، نشره موقع لإحدى المحطات التلفزيونية، ومفاده إنباء المتلقين، عن مناطق في الكرة الأرضية بمقدورهم الاختباء فيها خلال "الحرب النووية المقبلة". فجأةً، قررت أخذ الخبر على محمل الاقتناع، ولكي أفعل ذلك وأتمكن منه، رحت أتذكر الرسائل التي تصلني، من حين الى آخر، الى بريدي الالكتروني، متحدثةً عن كل أنواع المشكلات والأزمات، التي يعيشها العالم، وتهدده بالزوال.


لمَ لا؟ رحت أقول، فليس غريباً بعد كل تلك الكوارث، وفي نتيجتها، أن نصل إلى المنتهى، إلى الدمار الكلي. لكن، وإذا كان هذا الأمر راهناً، فماذا عليّ أن أفعل؟ فالحرب ستقع، وتلك المناطق بعيدة، وقد لا أجد طريقي نحوها، لا سيما أنها ستشهد اكتظاظاً سكانياً، فهل أبقى في بيروت، أم أهرع الى مكانٍ ما؟ ثم، بمن أتصل لأشاركه خوفي؟ هل أتصل برفاقي، أم أجنبهم الهلع؟ كيف أتجهز؟ هل أمضي إلى الدكان وأبتاع الحاجيات، مكدساً إياها في المنزل، أم أغض الطرف عن كل هذا، لأنه لن يعود عليّ بأي فائدة حين يحل الموت؟

ليتخيل أي واحد منا أنه يستيقظ في الصباح، ويخبره شخص ما أن الحياة ستنقضي بعد ساعات، ردود أفعالنا ستكون متفاوتة، إلا أننا، في كل الأحوال، لن نحسد بعضنا البعض عليها البتة. لكننا، اليوم، نستهلك ذلك الانقضاء، خبره، وصورته، أي أننا نستهلك نهايتنا، التي صارت، ومنذ زمن، موضوعاً جذاباً، مثيراً، نطّلع عليه، ونواصل عيشنا من بعده: العيش بعد نهايتنا، يا له من أمر ساحر!

وأن نستهلك النهاية يعني أننا في حاجة اليها لكي نتصل بأنفسنا، وهذه ذروة الفظاعة، بحيث أننا نرغب في "شيء" يطيح بنا، يقتلنا، يدمرنا، كي نشعر بوجودنا في لحظة انعدامنا. ألا يشير هذا إلى أننا موتى، وننتظر الموت لكي نتأكد من ذلك، أو بالأحرى كي ننتبه الى ذلك؟

لقد تكلم الطبيب ميشال بومان عن داء "أليكسيثيميا" (Alexithymia)، الذي، وعندما يصيب أحدهم، يجعله بعيداً للغاية من نفسه، إذ يستطيع أن يتكلم عن أي موضوع بطريقة متينة ومذهلة. لكنه لا يقدر على صياغة وجدانه في جملة. فلا يقول "انا أتألم"، بل لا يلاحظ ألمه، ولا ألم الآخرين طبعاً. بالتالي، يحتاج إلى أن "يتفرج" على ألمه أمامه كي يشعر به، وكي يشعر بوجوده من خلاله على اعتقاد بأنه وضع "برّاني"، يستهلكه، من دون أن يخصه ومن دون أن يعنيه.

هناك ما يبعث على المتعة في استهلاك النهاية، إذ أن إخبارنا بأن كارثة ما ستحدث، وتقضي علينا، قد تترك أثراً اغتباطياً فينا. كأن ينقل لك أحدهم خبر "الحرب النووية" ضاحكاً: "أنظر، أنظر، سنموت جميعنا". وفي هذه الحالة، من الممكن الاعتقاد بأن شرط الاغتباط بالنهاية هو أن يكون مسبوقاً بما هو أكثر قسوة، وأكثر عنفاً منها. ذلك، حتى إن لم نكن على إحساس به، نتيجة داء "أليكسيثيميا"، ونتيجة انفصالنا التام عن وجداننا. نغتبط بكون النهاية وشيكة، أو أنها قريبة للغاية، أو أنها حدثت، كأنها منقذتنا من وضع لا ندرك ما هو، ولا ندرك أننا عالقون فيه، ولا ندرك بأنه يجعلنا، يا للتعاسة، نرغب في موتنا.

وكلما مضينا في استهلاك النهاية، ضاعفنا من إقبالنا عليها، ومن إدماننا على تلقيها، وعلى نقلها الى غيرنا، وبثها فيه أيضاً. فالإدمان على النهاية هو، وببساطة، عدم الإيمان بأي بداية جديدة، وعدم الإيمان بأننا، وقبل أن نصير جمهوراً من الموتى المغفلين والساهين، كنا مواليد، وموّالنا الأول هو أن ننتبه، إلى الضوء مثلاً، ومنوالنا الأول هو أن نحيا، بعيداً عما يلحق بنا الضرر والأذية على الأقل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها