الأربعاء 2017/05/24

آخر تحديث: 17:00 (بيروت)

صورة خالد علي: البذاءة لمواجهة السلطة البذيئة

الأربعاء 2017/05/24
صورة خالد علي: البذاءة لمواجهة السلطة البذيئة
increase حجم الخط decrease
في شهر كانون الثاني/يناير الماضي، رفع المحتشدون أمام المحكمة الإدارية العليا، المحامي خالد علي، على الأكتاف، بعد الحكم بمصرية جزيرتي تيران وصنافير. الهتاف السعيد للمرة الأولى منذ صعود عبد الفتاح السيسي للسلطة، بسبب ذلك الانتصار العملي والرمزي، بعيداً من استدعاءات الشوفينية المصرية: خالد علي، على الأكتاف في لحظة انتصاره وقوته، وعلى الطريقة المصرية في "رفع الإصبع"، وجّه إصبعيه الوسطيين في الناحية التي تتجه إليها العيون، والتُقطت الصورة.


لم يستطع الحكم على أهميته وتاريخيته أن يغطي على "حركة خالد علي"، بل إنه فتح باباً لرجال النظام كي يتحركوا باسم الأخلاق للهجوم عليه بضراوة. وتوقع كثيرون أنه سيُقبض عليه ويحاصر، وأن يُنكّل به بأي طريقة، كما اعتاد الجميع تعامل النظام مع خصومه.

أحمد موسى نفسه ترك القضية والحكم والبروباغندا المنظمة التي ساقها ضد مصرية الجزيرتين، وركز على حركات الأصابع، بل إنه تكلم بلغة منطلقة من مفاهيم حركة الإصبعين، وقال "لو دكر قول الحركة دي لمين". قال "دكر"، بالدال لا الذال، وفي الدارجة المصرية هي الكلمة التي تقال بشحنة عاطفية كبيرة، احتقاراً أو سخرية أو تشجيعاً، بحسب السياق، والغرض منها استفزاز "الرجل" باستدعاء فحولته وامتيازه باعتباره "الدّكَر".


توقع الجميع عواقب لخروج الإصبعين من سياقهما الأخلاقي المعلن، إلى السردية الاجتماعية المنكَرة في العلن. سمير صبري، محامي الأخلاق العامة المحترف في رفع القضايا وتقديم البلاغات ضد الشخصيات العامة، من راقصات إلى محامين، لم يفوت الفرصة لتقديم بلاغ في اليوم التالي للحكم مباشرة. وتوقع الجميع حينها أن تُسَيّر القضية سريعاً، لكن القصة انتهت عند البلاغ، وماتت تماماً، أو ظن الجميع ذلك.

لا تقف الأصابع الوسطى في مصر منتصبة وحيدة، كما في الثقافة الأميركية الحديثة. والحركة لها تأويلات تاريخية في أوروبا والولايات المتحدة. فبحسب ديزموند موريس، الأنثروبولوجي الأميركي، جاءت هذه الحركة مع المهاجرين الإيطاليين إلى الولايات المتحدة، وهم أنفسهم ورثوها من الحضارة الرومانية التي كانت تعتبر تلك الإصبع "مشؤومة وقذرة"، ورمزاً للقضيب، وهم بدورهم أخذوها من اليونانيين الذين استخدموها كرمز "مهذب" للجماع الجنسي من دون تصريح واضح.

تفسير آخر لطيف يقول إن الحركة تعود إلى العام 1415 أيام معركة "أجينكورت" بين المملكتين البريطانية والفرنسية. الفرنسيون كانوا يقومون بقطع الأصابع الوسطى للأسرى الإنجليز كي لا يعودوا إلى إطلاق السهام عليهم من جديد. لكن المعركة تحولت إلى صالح الإنجليز فأصبحوا يشيرون إلى أعدائهم بالأصابع الوسطى، ليقولوا بأنهم ما زالوا قادرين على الرماية حتى لو بُترت تلك الأصابع. وفي أميركا وأوروبا تنقبض الأصابع تاركة الوسطى وحدها منتصبة واقفة، لتدل على الاحتجاج والرفض والغضب والانزعاج، وصارت لغة يومية "مقبولة" في التصور العام.

أما في مصر، فلا تاريخ معروفاً لاستخدام الإصبع الوسطى، وربما تسلل الاستخدام إلى الثقافة الشعبية من أيام الاحتلال الانجليزي، أو ربما هي حركة ذات جذر أقدم تاريخياً، إذ أن وضع الإصبع المصرية يختلف عن المستخدم في العالم الغربي، حيث تنتصب الأصابع جميعاً، باستثناء الوسطى التي تستقيم أفقياً، كأنها مهيأة لاختراق ثقب ما. والحركة في مصر لا تُفعل على الأرجح إلا للذكور، وبالتالي هي همّ بالفعل أكثر منها إشارة رمزية، وتقول الكثير عن "الانتهاك الرمزي" لذكورة الموجهة إليه، ثم صارت تقدم اعتراضاً على كلام أو تحدياً لسلطة ما، خصوصاً من يستمد سلطته من فحولته. فصارت للتقليل من شأنه، وعلى الرغم من ذكورية الحركة وحمولتها المزعجة إلا أنها ابتعدت قليلاً معناها.

أبرز خالد علي إصبعين، بدلاً من واحدة، في وجه السلطة، في العلن وأمام الجميع، والكاميرات وثقت المشهد. كل تبرير قيل في تأويل الحركة "أخلاقياً"، مثل أن الصورة مغرضة وأنها اختارت توقيتاً يظهر ما هو خلافها، لم يقلل من قوة حضورها: "البذاءة" في مواجهة السلطة البذيئة. وعلي هو واحد من فريق الدفاع في قضية الزميل والكاتب أحمد ناجي، بتهمة خدش الحياء العام، يواجه التهمة نفسها تقريباً مع إضافة "مدوية" وهي "فعل فاضح وخادش للحياء العام".

أربعة أشهر بين إشهار الأصابع وتحريك الدعوى، وفي هذه الأثناء بدأت الدولة التنكيل بحزب "العيش والحرية" تحت التأسيس، وهو الحزب الذي يضم خالد علي بين صفوفه. والقضية المثارة لأنها "فعل فاضح" تمنعه قانوناً من الترشح لرئاسة الجمهورية العام 2018. ورغم ضآلة الفرصة التي تقترب من استحالتها، فلا تستهين الدولة بأي تحرك يمكن أن يقلقها.

الرئيس عبد الفتاح السيسي الآن في أضعف حالاته سياسياً واقتصادياً، ويبدو أن قلقه يتزايد مع اقتراب الانتخابات، وهو لا يريد أن يترك أي شيء للاحتمالات. وقد أثبت هذا النظام أنه لا يترك هامشاً للحركة. وهنا يعتبر عمرو أديب أن إلقاء القبض على خالد علي يزيد من أسهمه ورصيده عند الناس، بفرض أنه يحدث لمنعه من الترشح للانتخابات، لكنه لن يتحول إلى مانديلا بسبب 24 ساعة في الحجز.


كل هذه التأويلات لها وجاهتها بالطبع، لكن في النهاية فإن تحريك البلاغ ضده هذه الأيام، يتوافق كلياً مع حرص هذه الدولة على تعريف "الحياء العام" بأنه الشيء الأكثر هشاشة في بنيتها، يُخدش ويتأثر بأي مفردة صريحة في رواية، أو إصبع وحيدة في الهواء. أما الخاطر الأكثر فانتازية وجمالاً، هو أن تتحرك القطاعات المعنية بالقضية لتكرار الصورة، كأن يخرج الآلاف وهم يشيرون بأصابعهم الوسطى في وجه السلطة، لعل القيمة الاحتجاجية المضافة تزيد المسافة قليلاً بين الإصبع ودلالتها الذكورية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها