الثلاثاء 2017/05/16

آخر تحديث: 18:47 (بيروت)

ضربة "وانا كراي": صِدام عولمتين

الثلاثاء 2017/05/16
ضربة "وانا كراي": صِدام عولمتين
increase حجم الخط decrease
مَنْ تصادم مع مَنْ في الضربة المعولمة للفيروس الإلكتروني "وانا كراي"؟ ماذا يعني أن تأتي تلك الضربة في لحظة إشكاليّة فوّارة بصراعات توصف بأنها تاريخيّة وغير مسبوقة في النظام العالمي، ثم توصف تلك الضربة الإلكترونيّة الإرهابيّة نفسها بأنّها تاريخيّة وغير مسبوقة أيضاً؟ كأنما هي صورة نموذجيّة لتضارب عولمتين متوازيّين، ثم انهار التوازي بينهما بمعنى أنّ أحداهما منخرطة في تغيّير أساسي في مسارها، فيما استمرت الاخرى محمّلة بمعطيات وتناقضات ترجع إلى تاريخ علاقة التوازي التي صارت من الماضي بفضل تلك الضربة نفسها!


لنسر بحذر وتحدٍّ في قراءة ضربة فيروس "وانا كراي". ربما يفيد أن نتذكر التحدي العميق الذي رماه المفكر الفرنسي جان بودريار عندما قرأ ضربة الإرهاب في 11/9، بأنها صِدام بين نوعين من الميتافيزيقا الشاملة. إحداهما عابقة برائحة تاريخ دين قديم (الإسلام)، فيما الأخرى ميتافيزيقا معاصرة (برج التجارة العالمي) حديثة محمّلة بملامح استيلاء الامبراطوريّة الأميركيّة على العالم عبر العولمة التي كانت آنذاك في عزّ اندفاعاتها.

وكشفت 11/9 زيفاً أصيلاً في وعود العولمة الورديّة، بل قلبت بطنها ظهراً. وبذلك، عاد النقاش عما جرى الصمت عليه طويلاً من توحشّ وتغوّل في الحداثة الغربيّة نفسه، خصوصاً عبر استعادة تاريخ من صراع الميتافيزيقا الإسلاميّة مع مشروع الحداثة الغربي الذي افترضت العولمة دوماً أنها وريثته البديهيّة. قدّم بودريار تلك القراءة المركّبة في كتابه "أبراج السلطة المحترقة: مرثيّة البرجين التوأمين- فرضية حول الإرهاب- عنف العولمة" الذي صدر العام 2002. وأحدث هزّة في الصورة المبسطة والخادعة لضحية متقدّمة في الحضارة والعلوم، مقابل جلاد متخلّف يتنفس الماضي وحده فلا ينفث سوى إرهاب معادٍ للإنسانيّة.

تناقضات العولمة... الآفلة
إذاً، لنرد الطرف إلى ضربة فيروس الفدية "وانا كراي" وهو اختصار لإسم الفيروس المزدوج "وانا ديكتوتر"- "إتيرنال بلو" Wanna Detector- Eternal Blue. في ثناياه، تبرز العلاقة المعقّدة دوماً بين الإرهاب والاستخبارات في الدول التي يبدو الإرهاب أنه يستهدفها! باختصار، صنع مكوّنا الفيروس على يد "وكالة الأمن القومي" الأميركيّة التي بات معروفاً أنها تمارس تجسّساً إلكترونيّاً على العالم بأسره، بل تخترق من الأجهزة والنظم والشبكات على مدار الساعة، بأضعاف ما فعل "وانا كراي" بل ربما جملة الضربات المشابهة وعمليات الاختراق التي تمارس في ما يعرف بـ"العالم السري/ السفلي للإنترنت"، وهو رمز مكثّف لعالم عولمة بديلة، لكن بمعنى سلبي تماماً. وثمة مفارقة كثيفة الدلالة: كانت الشريكة الرئيسة للوكالة الأميركيّة في اختراقاتها واجتياحاتها العالم هي نظيرتها البريطانيّة "القيادة الحكوميّة للاتصالات".

وضرب "وانا كراي" بقسوة في البلد الشريك لمن صنع فعليّاً السلاح الذي استخدمه الإرهاب الإلكتروني، الذي هو ظاهرة معولمة بالتعري. وهناك ثنية اخرى. لماذا صنعت "وكالة الأمن القومي" ذلك الفيروس؟  لأنها تريد اختراق كل الأجهزة التي تعمل بنظام "ويندوز إكس بي" الذائع الانتشار عالميّاً، في حال اضطرت إلى ذلك. لندقق بالأمر، تملك الوكالة الاستخباراتية حقوقاً قانونيّة تستطيع فرضها في أي لحظة على شركة "مايكروسوفت" الأميركيّة، لكنها تفضل أن تصنع سلاحاً لتخترقها به. التناقض الهائل في تلك الصورة أن شركات المعلوماتيّة مثّلت السلاح الثقيل (ربما الأثقل) في العولمة المتوحشة التي قادها القطب الأميركي بداية من انفراده في قيادة العالم وصولاً إلى ما قبل لحظة انتخاب الرئيس الشعبوي دونالد ترامب.

وكشفت ضربة "وانا كراي" عن تناقض في قلب قيادة العولمة المتوحشة وأداتها الفضلى في نشر نفوذها عالميّاً، بل أن نشر نفوذ الشركات العملاقة هو ما دأبت على رعايته وحمايتها قوة القطب الأميركي. وفي ثنية ثانية، انتقل المكون الفيروسي المصنوع من القطب الأميركي وشركاته العملاقة، عبر موقع "ويكيليكس" المتسربل بعلاقات متناقضة مع الأقطاب المكوّنة لعالم العولمة المتوحشة. وتحمل العلاقة مع "ويكيليكس" صورة انهيار في قلب تلك العولمة عبر صعود القطب الروسي المتبرم بالهيمنة الأحادية لأميركا والساعي إلى فرض نفسه قطباً موازياً نسبياً، ضمن عولمة مغايرة.

تذكيراً، أليس معروفاً أن إرهاب 11/9 صنعته الدول التي ضربها. لنعد من دون حصر: أميركا التي قادت خيار تدفق الجهاد الإسلامي إلى أفغانستان الشيوعية، ومجموعة الدول العربيّة والإسلاميّة المنخرطة معها، وإيران التي انتهزت السانحة لتمد خيوطاً مريبة مع ظاهرة الصعود الإسلاموي (بما فيها علاقتها مع "القاعدة"، خصوصاً عبر أيمن الظواهري)، وروسيا التي ما أن انقلب الميزان بين حركة "طالبان" وأميركا في لحظة 11/9 حتى صارت من رعاة "طالبان"، وهو أمر صار صريحاً حاضراً. ألا تستحضر صناعة مكوّنات "وانا كراي" ظلال كثيرة من ذلك التشابك الإرهابي؟ أليس في تلك المعطيات يحضر أنّ عالماً اختفى وعالماً بديلاً حلّ مكانه منذ لحظة 11/9؟

وهناك ثنية اخرى، هي الحضور الصيني. إذ طلبت مجموعة الإرهاب الإلكتروني فديات بعملة الـ"بتكوين" الرقمية المعولمة التي تروج بصورة خاصة في الصين، بل تلقى رعاية من عالم الأعمال المتشابك مع الدولة والممسك بالمصالح فعلياً فيها. وتسعى الصين أيضاً إلى فرض نفسها قطباً، خصوصاً عبر مشروع "درب الحرير الجديد" ("الدرب والحزام") الذي يفترق عن العولمة النيوليبرالية المتوحشة بتشديده على الجغرافيا ومعطياتها ذات التاريخ المديد. وإذا صحّ ما أوردته شركتا "كاسبارسكي لابس" و"سيمانتك كورب" المختصصتان في الأمن المعلوماتي، عن ضلوع محتمل لكوريا الشمالية عبر مجموعة تدعى "لازاروس"، في ضربة "وانا كراي"، تكتمل صورة حضور القطب الصيني الساعي أيضاً لنقض العولمة الأميركية المتوحشة وأحاديتها.. فمن يجهل النسيج المتين ما بين بيونغ يانغ وبكين؟ إذاً، الأرجح أنّه على أنقاض تلك التناقضات، سار فيروس الإرهاب منتشراً في العالم بقوة مكوّنات صنعتها أميركا السلطة والشركات، إضافة إلى صراعات شتى في قلب عولمتها المنفلتة، وصراع مع أقطاب فيها؛ كأنه شبح يسير على أنقاض العالم المعولم الذي صنعه، بل بالأحرى كأنه سار في لحظة مكثّفة من انهياره وقرب اختفائه.

الفلسفة والجغرافيا البديلة
في المقابل، الأرجح أيضاً أن ضربة "وانا كراي" شهدت للحظة تبدّلاً تاريخياً وفوّاراً أيضاً. إنّه العالم، يتغيّر تحت عيوننا لكن يخادع أبصارنا باستمرار. هناك أنقاض حاضرة في أميركا وأوروبا لا مماراة فيها. صوّت الناس في أميركا وفرنسا للأمر نفسه: نقض النظام الذي سار بهم منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى ختام العولمة المتوحشة. في أميركا، فاز رئيس من خارج مؤسّسة النظام الراسخة المستندة إلى نظام الحزبين. في فرنسا، كانت قرقعة سقوط النظام أشد قوّة. لم يستطع اليمين واليسار الوصول إلى الدورة الثانية من الانتخابات. هناك رفض عنيف للعولمة المتوحشة، لم يبق مجالاً إلا لمن وضع نفسه خارج النظام (ماكرون ولوبان)، لكنه أسقط النظام بأسهل مرور سكين في قطعة زبدة. في أميركا، لا يختلف الأمر إلا بشعبويّة ترامب وتياراتها الرافضة للأسس كثيرة في الديموقراطية.

استطراداً، إذا فُهِمَت الديموقراطية بوصفها تجربة تاريخية إنسانية (لا كدوغما من القيم والشعائر والممارسات) يكون الصراع مع شعبوية ترامب تجديداً من الجذور للديموقراطية الأميركيّة. وينطبق وصف مماثل على تريزا ماي، ربما مع تعديلات تخص بريطانيا وثقافتها المديدة. ليس مجازفة القول بأن فراغاً هائلاً فغر فاه بين ضفّتي الأطلسي، بل على مستوى عالمي إذا تذكّرنا أن أضخم ديموقراطية في العالم (الهند) أوصلت إلى الرئاسة شبه شعبوي هو ناردرا مودي. ربما ليس مصادفة أنه بعد ذلك الفراغ، كأنها تسير فيه، لأن الشدّة الأقسى في خرابها كانت في بريطانيا البريكست (اهتزاز القطاع الصحي المشهور بالدقة الصارمة)، واسبانيا التي تصارع نزعة انفصاليّة شعبويّة في إقليم كاتالونيا. وتستأهل الشدّة التي ضرب بها فيروس "وانا كراي" فرنسا بعض التمهلّ. إذ شلّت الضربة مصنع "رينو" وهو من الرموز الكثيفة للصناعة الفرنسية لما بعد الحرب العالمية الثانية، بل لفرنسا المعاصرة

بعد فوز ماكرون بقليل، جاءت ضربة "وانا كراي". وعلى رغم سياسته التي ينفر منها عمال المصانع وأصحاب الحرف، إلا أنه بُعيد انتخابه، بيّن أن خطه السياسي ربما كان أكثر عمقاً. ذهب إلى ألمانيا، ليعلن أن صيغة الاتحاد الأوروبي ستتغيّر، مع التوازن بين جغرافيا السياسية وتراكيبها العابرة للحدود، مع ملاحظة أن ذلك ينسجم مع الحديث عن مصانع وعمال وحرف وفلاحين نجحت الشعوبيّة دوماً في إيجاد موطئ قدم لها بينهم. ويلاحظ أن ماكرون ربط ذلك بالموقف من العمال، الذين رأى أن العولمة المقبلة يجب أن تراعي حقوقهم. ويلفت أيضاً أنه تمسك بقيم مرحلة الأنوار وفلسفتها، وشدّد على ضرورة الانخراط في السياسة، وهو أمر طالما رفضته العولمة المتوحشة لتنحاز إلى التقني والمعلوماتي! ألا يشي ذلك بتجدد فوّار في الديموقراطية كتجربة تاريخية إنسانيّة؟ ربما يعرف قليلون أن ماكرون شغف بالفلسفة إلى حدّ اشتغاله مع الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (من مدرسة الهيرمونيطيقا التأويليّة) في كتاب "الذاكرة، التاريخ، النسيان" (صدر بالعربيّة في 2009). وتكمن أهمية تلك المساهمة، وهي ضئيلة فعليّاً لأن ماكرون لم يكن سوى شاب في الثانية والعشرين من عمره، يهوى الفلسفة لكنه لا يقارن بفيلسوف الهيرمونيطيقا بول ريكور.

إذاً، ووفق شعر هولدرلن "حيث الخطر الاقصى، هنالك يكون الرجاء"، يمكن وصف ضربة "وانا كراي" بأنها صِدام عالمين: الإرهاب الإلكتروني المتسربل بكافة تلاوين النظام العالمي من الحرب العالمية الثانية إلى سقوط العولمة المتوحشة، وعالم يحاول تجديد الديموقراطية بأنها تجربة إنسانيّة وليست تنظيراً، بل عودة إلى انخراط واسع ومباشر للناس في السياسة وصناعة التاريخ، مع احترام الجغرافيا اجتماعياً وسياسياً وثقافيّاً بما فيه التراث والأديان. هل تشبه السوشال ميديا في بعض مناحيها ذلك الرجاء؟ يحتاج الأمر نقاشاً آخر. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها