الخميس 2017/04/06

آخر تحديث: 11:09 (بيروت)

زياد الرحباني ظاهرة صوتية

الخميس 2017/04/06
زياد الرحباني ظاهرة صوتية
عاشق العسكر
increase حجم الخط decrease
في زياراتي الأولى إلى بيروت، كطالب جامعي يساري من سوريا، كنت كالخارج من الظلمة إلى النور. ورغم وجود الجيش السوري فيها، إلا أن المدينة كانت ممتلئة بحياة سياسية لم أعهدها حيث جئت. فمن حفلة لزياد الرحباني، إلى مؤتمر للحزب الشيوعي اللبناني، إلى سهرة عند "أبو إيلي"، ثم جَمعة رفاق تناقش الأوضاع وسبل التغيير، مع ويسكي بلا ثلج، حتى الصباح.

بيروت، التي اكتشفت وأحببت في تلك المرحلة، كانت دمعة في عيني، في طريق العودة إلى السجن الكبير. وهناك، كنت أروي مغامراتي، وأقص على الرفاق بحسرة، نضالات الرفاق اللبنانيين.

وإذ حوّل محمود درويش، بيروت، إلى أيقونة، فقد جعلها زياد الرحباني حية. بيروت الجبهة الوطنية، والكفاح الفلسطيني في السبعينيات والثمانينيات، كانت مجرد ذكريات جيل أكبر منّا. أما نحن، عاشقو الرحباني حينها، فقد تحولنا إلى نسخ متشابهة، نعيد الدعابات ذاتها، ونضحك عليها أبداً كما الأطفال.. شو يا حكيم؟ بدنا نبحش واللا لا؟

لكن بيروت تفاحة، والقلب لا يضحك. على الأقل هذا ما أردده لنفسي اليوم، بعد نحو أربعة أعوام متواصلة في العاصمة اللبنانية. خلال هذه المدة الطويلة، دماء كثيرة جرت بيني وبين صدمتي الأولى في بيروت قبل خمسة عشر عاماً. في مُستقرّي الأخير، لم أزُر حانة "أبو إيلي" ولا مرة واحدة، بل وأشعر بالشفقة على الحزب الشيوعي اللبناني، وأضحك كلما شاهدت منشوراً له، كما كنت أضحك على الأحزاب الشيوعية في سوريا. ذلك عدا عن اتساع بيروت الهائل الذي اكتشفته، وأنا أحاول التهرب من زحمة السير، بـ"الزَّوربة"، اتساع تكاد تنمحي معه ذكرياتي الأولى عن مدينة الرفاق والثورة في الشرق. فتلك المساحة انكمشت في ضوء حياتي اليومية، وإيقاعي في العاصمة، إلى حدود التلاشي. حتى أنه صار بالكاد ممكناً تقاطع دوائرنا، إلى حد يقودني أحيانا إلى التشكيك في وجودها خارج إطار ضيق، يحلو لي تسميته بمجتمع زياد.

إلا أن زياد الرحباني لم يعد يضحكني. بل بتّ أشعر بثقله، على عكس الخفة التي كنت أحسها سابقاً. المشكلة ربما لا تتعلق بالرحباني، بل مع ذلك الشاب الذي كنتُه. لكن ذلك لا يمنعني من مساءلة زياد وما يمثله. فالقيم التي اعتقدت أنها يدافع عنها، سقطت مع تجربة الثورة والحرب في سوريا. وألوم نفسي، فعشقه للعسكر واضح في مسرحياته، وضوح العماء الذي كنا نعيشه. ومع ذلك لم أصدق الوقائع وأخذته كدعابة. لم أفهم وقتها أن الرحباني يحب العسكر حتى ولو ارتدوا السترينغ أثناء السباحة.

الضابط في "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" و"تابع لشي تابع شي"، هو ضرورة في وعي زياد، لا مساحة للتندر. هو الضرورة الحتمية، التي انقلبت إليه حتمية التاريخ في نسخة الشيوعية العربية. فمن قال يوماً إن انقلاب ملايين الفلاحيين إلى "مليكة" بين ليلة وضواحيها، في الاتحاد السوفياتي، يستوجب التوقف عن التذمر وعدم المطالبة بالديموقراطية، هو نفسه من أغفل حقيقة أشد من التغاضي عن حقوق الإنسان، وهي وهم انقلاب ملايين الفلاحين الروس إلى مليكة.

مشكلة زياد أن بإمكانك أخذ مقولته ذاتها، له كدعابة حيناً، وعلى محمل الجد أحياناً. هنا تماماً يضيع الحد بين الدعابة والواقع، وينقلب في صورة مريديه، مجتمعه، إلى سماجة. ربما يكون تحميل هذا الموسيقي عبء التنظير، ومطالبته بموقف يتوافق مع وعيي، كان أزمة عندي، قبل أن أقلع عنها. لكنه الرحباني، وعدا عن نضوبه الموسيقي منذ التسعينيات، اعتاد تقديم نفسه كمحلل ومنظّر، كما تشهد مقالاته في صحيفة البراميل، والتي لم أتمكن يوماً من فهم مقصده منها. اختبار المكتوب أمام المحكي، يجعل من زياد، في أحسن أحواله، ظاهرة صوتية. والأكيد أن تلاعبه بالكلام، قد ينتج نكتة، لا معرفة، وبالضرورة منظومة أخلاق مختلفة.

أربع سنوات عشتها في بيروت، أثناء الحرب السورية، أعادت تشكيلي، منقلباً فيها على نفسي مراراً. لكن لها فضيلة تعليمي أن المهرج لا يؤخذ على محمل الجد، تماماً كما أن تزويج الليلك محض استعارة شعرية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها