الثلاثاء 2017/04/25

آخر تحديث: 15:18 (بيروت)

سميرة سعيد مازالت تواجه: لا أحد يقول لفيروز اعتزلي!

الثلاثاء 2017/04/25
سميرة سعيد مازالت تواجه: لا أحد يقول لفيروز اعتزلي!
increase حجم الخط decrease
على الرغم من شخصيتها القوية وعفويتها الصادقة، إلا أن النجمة سميرة سعيد حافظت على صمتها أمام المذيع المصري عمرو أديب في برنامجه "كل يوم جمعة"، عندما سألها "ماذا تريدين أن يكتب عنك التاريخ بعد خمسين عاماً؟". حيرة الفنانة المغربية أمام السؤال وتمنعها عن الإجابة لم يكن "تدللاً" أو اصطناعاً للعفوية، بل بدا فعلاً تواضعاً في شخصية سعيد نفسها، يفتح الباب للحديث عن "إرث سميرة سعيد"، كأكثر فنانة مجددة في الموسيقا العربية.


فالتجديد الذي قامت به سعيد كان له تأثير في الموسيقى العربية طوال خمسة عقود، وهو أمر لا تنكره بل تتحدث عنه باقتضاب: "جربت كل شيء في الموسيقى"، وفي ذلك التصريح قدر كبير من الحقيقة. فهي التي بدأت الغناء الطربي بأداء أغنيات أم كلثوم وغيرها من جيل الكلاسيكيات الطربية، في سن الخامسة، بدأت إطلاق أغانيها الخاصة في التاسعة من العمر فقط، وهناك تسجيل نادر لأغنيتها الأولى "كيفاش تلاقينا" بالمغربية العام 1968، وهي طفلة صغيرة محاطة بالآلات العملاقة تغني كمطربة محترفة تخطف الأنظار، ولا تبالي برتوش تافهة مثل سنها الصغير أو رهبة المسرح.


سنوات طويلة قضتها سعيد في عالم الطرب، لكنها لم تقدم إضافة خاصة حينها مع وجود أسماء كبيرة منافسة مثل وردة الجزائرية وفايزة أحمد، وإن عرفت كمغنية قادرة على أداء الطرب بجودة وقوة وإتقان، وتعزز عجزها عن البروز كنجمة أولى لأن الأنماط الموسيقية لم تكن قد دخلت الموسيقى العربية كما الحال في الموسيقا الغربية، ما سرّع في اتخاذها قراراً شجاعاً باتخاذ مسار مختلف يجعلها متفردة عن بقية الفنانين، وبقي ملازماً لها حتى اليوم في كل ما تقوم به من قرارات على الحافة بين النجاح المدوي والفشل الذريع، وإن كانت احترافية سعيد ودراستها لكل ما تقوم به تجعلها في كل مرة تتجنب الفشل بشكل مدهش.

هذا التغير في توجه سعيد الموسيقي يذكر بأيقونتي البوب العالميتين مايكل جاكسون ومادونا. فجميعهم يتشاطرون صفات مشتركة مثل العمر والتأثير الموسيقي في الحقبة الزمنية نفسها، أي مطلع الثمانينيات، وهي الحقبة التي تحولت فيها الموسيقى نحو تكريس البوب كموسيقى عالمية يتم تعزيزها عبر قنوات تلفزيونية موسيقية مثل "إم تي في"، واعتمدت في الولايات المتحدة على الدمج بين الغناء والرقص والترفيه والإبهار والتمثيل وبداية عصر "الفيديو كليب".

أما في الشرق فكان الوضع مختلفاً ومملاً، حيث الأغاني الطويلة والطرب الرتيب والكلاسيكية والرزانة مع تأثير ثقيل للراحلة أم كلثوم التي أسست نمطاً راسخاً عاش بقية المطربين في ظله، وبالإمكان تخيل الصدمة التي أحدثتها سعيد عندما غنت العام 1982 أغنية قصيرة دراماتيكية بألحان غير مألوفة مثل "قال جاني بعد يومين" كأول أغنية "بوب" عربية على الإطلاق.


ولم تكن سعيد حينها تجدد في شكلها بطرق صادمة وجريئة كمادونا، بل بقيت كلاسيكية بثوب طويل وأداء رزين للأغنية الثورية على المسرح، وحتى اليوم بعد مرور 35 عاماً على تلك اللحظة بقي هذا التوازن بين التجديد الموسيقي والإطلالات التي تراعي التقاليد الشرقية من ناحية الأزياء وأفكار "الفيديو كليب"، أساس تجديد وإرث سميرة سعيد.

لا شيء يحزن سعيد التي تغني للفرح والحياة والمتعة، سوى تلك الدعوات المستمرة كي تعتزل لأنها كبرت في السن، ولا شيء يضايقها سوى قراءة التعليقات التي تردها عبر مواقع التواصل كي تتوب. تقول مراراً أنها ترفض هذا التفكير، وتربط نفسها مجدداً بمادونا التي تحدثت مراراً عن المشكلة نفسها. ويرتبط ذلك بتمييز قبيح مزدوج: جنسي وعُمري. هذه الدعوات لا تتكرر مثلاً مع فنانات مثل فيروز، بل تنحصر فقط بمغنيات "البوب"، وفي ذلك تصنيف تحقيري لهذا النمط من الموسيقى الذي يراه البعض تجارياً، ودائماً ما يتم ربطه في المخيلة العامة بالجسد والعاطفة السريعة والجنس في نهاية المطاف، وليس بغرائز أسمى كالحب والوطن والأمومة (فيروز).

وهنا، يجب الحديث عن كل التجديد الذي تقدمه سعيد في كلمات أغانيها، وهي تتعدى عموميات الحب نحو أنماط غير مألوفة من التفكير يرفضها المحافظون في العالم العربي، مثل حرية المرأة (خصوصاً عندما بدأت ذلك في الثمانينات)، والتي تبدو بشكل مجرد في أغنيتها الأخيرة "إنسانة مسؤولة" على سبيل المثال والتي تقدم فيها نفسها كمدافعة عن حقوق المرأة، رغم أنها تواظب في مقابلتها التأكيد على حقوق الإنسان عموماً وترفض مبدأ تقديم أغاني موجهة لجنس واحد فقط.


والحال أن واحدة من أبرز عقبات تطور البوب العربي هو العمومية الشديدة في كلمات الأغاني المستنتسخة عن بعضها، والتي تتنافى بشكل مثير للسخرية مع أساسات البوب العالمي حيث يجب التركيز على حالات أو لحظات وتكثيفها، كتلك اللحظة من الشك التي تعقب إنهاء أي علاقة غرامية، بين صحة القرار من عدمه والتي تقدمها سعيد في أكثر أغانيها تجديداً على الإطلاق "محصلش حاجة". وهذا المعيار لطالما كان موجوداً طوال مسيرة سعيد، وأصبح منبعاً لتجديد أغانيها التي لا تشبه واحدة منها الأخرى رغم كونها جميعاً أغنيات عاطفية فقط.

يتوازى ذلك مع أنماط موسيقية غربية غنتها سعيد من "البوب" إلى "الجاز" مروراً بالموسيقى الإلكترونية و"الهاوس" و"السول"، وكانت سعيد تقدم تلك الأنماط بشكل صرف أو عبر دمجها مع الموسيقى العربية الكلاسيكية، لتعطي منتجاً جديداً مبهراً وصادماً للأُذُن لأول وهلة، قبل أن تتحول إلى تيار سائد في الموسيقى العربية التي لطالما استنسخت تجربة سعيد، بشهادة مغنيات كثيرات من زميلاتها اليوم، مثل أصالة ونوال الزغبي وشيرين عبد الوهاب، وكلهن أسماء كبيرة لهن مكانتهن في الموسيقى العربية المعاصرة، ومن الجيد الاستماع لأغنية مثل "حكاية" التي غنتها سعيد العام 1988 في وقت كان فيه التيار السائد منقسماً بين الطربي ("آخر زمن" لميادة الحناوي) أو الشعبي المحلي ("إنت السبب" لذكرى) أو المتأثر بالمدرسة الرحبانية والذي يبدو كأغنيات أفلام أكثر من كونه موسيقى مستقلة (طيا ساكن أفكاري" ماجدة الرومي).


الاستماع لسعيد طوال سنوات نشاطها الفني ممتع حقاً بسبب الشغب الذي تحدثه سميرة بصوتها المتحرك بإتقان وتتحكم فيه كي تبقى ضمن الإيقاع السريع، وهي نقطة تفسر بها صعوبة البوب العربي تحديداً أمام الطرب الذي يوفر مساحة كبيرة أمام أي مغن لاستعراض عضلاته الصوتية، وصعوبة أن يؤدي أي أحد آخر أغنياتها الخاصة، بما في ذلك أصالة التي وقفت عاجزة، رغم كل الجبروت الصوتي الذي تمتلكه، أمام أداء "محصلش حاجة" قبل أسابيع في البرنامج نفسه.


ومنذ "كيفاش تلاقينا" ومروراً بـ"مازال" وحتى "هوا هوا" التي تصفها بالطفولية، هناك مشاغبة دائمة في أغاني سميرة سعيد، بما في ذلك أغانيها الجادة الدرامية مثلا التي تأخذ دائماً منعطفات مفاجئة عبر طبقة حادة مفاجئة (مش ح اتنازل عنك) أو شغب بحركات الوجه التي لم تتغير حتى اليوم، وهي خاصية تأتي من الاندماج المطلق مع الأغنيات التي تؤديها سعيد، وخاصة على المسرح حيث تشعر بالوحدة، في اقتباس من الأيقونة الراحلة داليدا صاحبة التأثير العميق في سعيد أيضاً.

وبعد بمسيرة حافلة مستمرة تضم حوالي 46 ألبوماً وأكثر من 500 أغنية، بما في ذلك كونها أول مطربة غير خليجية تصدر ألبوماً خليجياً العام 1977، يتم وصف سعيد دائماً بـ"الديفا"، وهو وصف قد يكون ملائماً أكثر لتوصيف مغنيات مثل نوال الزغبي التي قدمت تجديداً موازياً في الأداء والشكل أكثر من تجديد الموسيقى نفسها. وعليه لا يليق بسعيد سوى وصفها بكلمة واحدة هي "الأسطورة".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها