الثلاثاء 2017/04/11

آخر تحديث: 18:39 (بيروت)

سوشيال ميديا الانتخابات: تعملُق الفرد الرقمي بجغرافيا وطنيّة!

الثلاثاء 2017/04/11
سوشيال ميديا الانتخابات: تعملُق الفرد الرقمي بجغرافيا وطنيّة!
increase حجم الخط decrease
الأرجح أن موجة الشعبويّة غرباً تستند إلى صعود فرديّة من نوع جديد تمزج الافتراضي المعولم مع نوع من الوطنيّة الجغرافيّة. فبعدما أوصلت الرئيس الشعبوي دونالد ترامب إلى الرئاسة، ترتجف فرنسا وألمانيا خوفاً من تكرار التجربة نظراً لقوّتها. ويعني ذلك أنها حركة تستند إلى فرديّة معاصرة تستفيد من البُعد الرقمي المعولم تعريفاً، ممثّلاً بالسوشيال ميديا خصوصاً، مع ربطها بكيان لجغرافيا سياسيّة - تاريخيّة محدّدة، ترجم ترامب ذلك بشعار "أميركا أولاً".


والأشد تعقيداً هو رفض تلك الموجة للعولمة التي تعتبر الإنترنت رافعة أساسيّة فيها، ما يعني ان التقنية المعولمة (السوشيال ميديا) مُزِجَت مع ما هو فعليّ (السياسة، التاريخ والجغرافيا المحلية)، عبر إعطاء أولويّة للفعلي ومعطياته الراسخة المكينة. ويبرز رفض العولمة في سياسة ترامب بوضوح. استدراكاً، الأرجح أنها إعادة صياغة للعولمة بما يعطي المركز الأميركي دوراً يتناسب مع أولوياته الداخليّة، وكذلك تلاقيه الصين، بل تشد حبالاً معه، بتبني عولمتها التي هي عملياً ترجمة للمعطى الداخلي الذي يحمله "درب الحرير الجديد" الأسطوري الأبعاد: أربعة تريليونات دولار! الأرجح أنها لحظة تحوّل تاريخي ضخم تماماً.


ديموقراطيّة ملتبسة بعنصريّة!
بأكثر من معنى، ثمة شعبويّة غربيّة تستند إلى الفرد الفاعل سياسيّاً، وهي تنطلق من الجذور، متحديّة جمود المؤسّسات التي احتكرت طويلاً التمثيل السياسي للجموع. بقول آخر، هناك حركة من الأسفل واسعة وتستند إلى الناس، بكونهم أفراداً واعين وفاعلين ومؤثّرين، يسعون لفرض تمثيلهم المباشر، متخطّين المؤسّسات عبر وضعهم جدارتها في التمثيل على المحك، وهو أصل في الديموقراطية.

وإذ يبدو الكلام مديحاً فائضاً لتلك الشعبويّة، لا بد من الاستدراك بالقول أنّها موجة تعرّضت لمخادعة متشابكة، كما تحمل رواسب صراعات تاريخيّة كثيرة، وأنّ أشد ما يسندها هو الأعصاب المكشوفة للولاءات النمطية وخطاباتها العنصريّة. ربما أنّ تلك شعبويّة تعطي مرّة اخرى نموذجاً سلبيّاً متطرّفاً عن معنى التنوّع والتعدّد في الحياة الفعلية للمجتمعات وتاريخها، فلا تسير أمورها صعوداً مستمراً ولا انحداراً متهاويّاً، بل خليطاً متماوجاً يحمل مروحة تفاعلات واسعة تماماً. لو كان الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر حيّاً، لغرّد في "تويتر" قائلاً: "ألم أقل لكم: إنها الكينونة التي تصنع الفرد، وليس العكس كما علّمت الرأسماليّة والاشتراكيّة سويّة"!

الألعاب الإلكترونية تصنع رئيس فرنسا؟
ماذا يعني أن تحسم مواقع الألعاب الإلكترونيّة (وهي جزء من السوشال ميديا) نتائج الانتخابات الرئاسيّة في باريس؟ ما الذي يقوله أن تفرد صحيفة "لوموند" الفرنسية محوراً عن استخدام حملة مرشحة اليمين المتطرّف مارين لوبن، مواقع الألعاب الإلكترونيّة (خصوصاً منصة "بلابلا 18- 25" Blabla 18- 25 وموقع "جي فيديو. كوم" Jeuxvideo.com) من أجل الترويج لفكرها ونماذجها النمطيّة، خصوصاً تلك المتصلة بالإرهاب الإسلاموي والمهاجرين، وصولاً لأن تخصّص قسماً من الصحيفة وموقعها الإلكتروني، لمتابعة طرق تعامل مرشحي الرئاسة مع السوشال ميديا، باعتبارها أمراً حاسماً في حصد أصوات الناس؟

ومنذ اندلاع النقاش عن دور السوشال ميديا في حسم الانتخابات الأميركيّة وإيصال الرئيس الشعبوي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ثارت نقاشات فوّارة في أوروبا والغرب عن الخشية من تكرار تجربتها في فرنسا وألمانيا. وحتى في هولندا، جرى الحديث عن الضغط الذي مارسه الجمهور الهولندي عبر السوشيال ميديا، لدفع حزب الوسط المحافظ إلى تبني برنامج قريب من اليمين المتطرف في الموقف من الإرهاب، وانتهاج سياسة متشدّدة مع المهاجرين، والتعامل إيجابيّاً مع روسيا وغيرها. أما في فرنسا، فوصل الأمر إلى حد الاتهام الصريح من الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى روسيا بأنّها تسعى إلى التأثير على الرأي العام، في مقابلة جرت أخيراً مع صحف "لوموند" و"سودويتشه تسايتونغ" و"لا ستامبا" و"لا فانغوارديا" و"ذي غارديان" و"غازينا فيبورشكا". ووصل إلى نقطة متألّقة تماماً بأن أشار إلى أن "الأيديولوجيا لم تعد هي ذاتها كما في عهد الاتحاد السوفياتي. إلا أنها الوسائل ذاتها مع إضافة التكنولوجيا إليها".

ويبدو التألّق سياسيّاً في صدور الكلام عن رئيس اشتراكي يحمل حزبه أيديولوجيا معيّنة هي الاشتراكيّة القريبة من "ما كان في عهد الاتحاد السوفياتي"، بمعنى أنّه يعطي الوزن الراجح للمصالح والتحالفات وليس للأيديولوجيا. وفي منحىً اشتراكي فرنسي تماماً، يبدو كلامه أيضاً تجديداً عميقاً لمقولات الأوروشيوعيّة، التي حاول جورج مارشيه الأمين العام السابق للحزب الشيوعي الفرنسي، السير بها في سبعينات القرن الماضي، للابتعاد نسبيّاً عن الجمود التاريخي للنموذج السوفياتي في الاشتراكيّة. الأرجح أن ذلك يعني أن ديمقراطية القرن 21 لم تعد مفصولة عن البعد الرقمي. ومع الأخذ بعين الاعتبار أن السوشيال ميديا تكوّنها أساساً جموع من الناس العاديّين، في الغرب، تكرّست فرديتهم بوضوح على غير حال العرب، الناشطين على الإنترنت، ما يعني أنها حركة من الجذور أيضاً.  

الـ"هايبر- آكتشوال" فرد بين الديموقراطيّة و"داعش"؟
في التجربة الأميركيّة، لم يصل النقاش عن هجمات إلكترونيّة إلى شيء حاسم، وهو أمر مألوف نظراً لصعوبة إثبات مصادر الهجمات الإلكترونيّة. لنقل أن هجمة نُفّذت بطريقة  "دي دوس" (DDOS أو هجمات موزّعة لمنع الخدمة)، يعني ذلك أن آلاف الكومبيوترات تشابكت في تلك الهجمة، والأسوأ أن بعضها ربما يكون استخدم من دون معرفة أصحابها، لأن المهاجمين سيطروا عليها من داخلها أثناء إعداد الهجمة.

من جهة أخرى، ما زال النقاش عن الاستخدام الحاذق للسوشيال ميديا مستمراً في أميركا، لكنه يميل إلى الخفوت. ببساطة، في الديموقراطية لا شيء يمنع من استخدام واسطة إعلاميّة لإبداء الرأي وتبادله مع آخرين. وفي المقابل، يرجّح أن مجموعات من الصفحات والحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، نسّقت أعمالها بدقة كي تضخ أخباراً تناسب الشريحة التي استهدفها خطاب ترامب، خصوصاً العمال في "ولايات الصدأ"  التي كانت مزدهرة في الحقبة الصناعيّة وصولاً إلى ستينيات القرن العشرين وسبعينياته. وتدهورت تلك الولايات مع اندفاعة العولمة مع حملته من متغيّرات في الاقتصاد، خصوصاً انتقال الأعمال إلى خارج أميركا (الصين، الهند، فيتنام،...)، وتدفّق العقول المتألقة من الخارج إلى الولايات المتحدة، خصوصاً شركات المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة.

ليس مجازفة كبرى صياغة تعبير الفرد- "الهايبر- آكتشوال"  HyperReality- Actuality، في وصف الفرديّة المتّصلة بالشعوبيّة. ويعني الـ"هايبرريالتي" مزج الواقعي بالافتراضي، وهو أمر روّجت له العولمة في مراحلها الورديّة (سواء وصفت بالليبرالية، نيوليبرالية، متوحشة...)، مع وضعه على أرض الواقع والحدثي، عبر محك المعطيات الفعليّة اليوميّة للمجتمعات المعاصرة، التي يتمازج فيها التاريخ والجغرافيا والسياسة والثقافة بمعطياتها وأبعادها المتنوّعة المتداخلة. في السنة الماضية، كان تعبير "ما بعد الحقيقة" هو الكلمة الجديدة لقاموس "ويبستر"، وهي قريبة من معنى الكلمات السابقة.

كذلك لم يعنِ مارتن هيدغر بكلمة "كينونة"، سوى تلك المعطيات وتشابكاتها. أليست مفارقة أن فكره رافق صعود نازيّة هي تجربة أولى للمجتمعات الحديثة مع الشعوبيّة التي كانت متفلتة إلى حدّ مدمّر فائق التوحّش والعنصرية؟ هل تذكّر كلمة التوحّش بشيء ما يجري داخل حدود الجغرافيا العربيّة، وهو يفيض بالتطرّف والعنصريّة والدمويّة، ويتفاعل بما لم تشهده حركة سياسية من قبل مع البُعد الافتراضي للانترنت، ويرفض العولمة، ويلاقي تأييداً شعبويّاً؟ 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها