الأحد 2017/02/19

آخر تحديث: 15:20 (بيروت)

"صراحة": منبر الفضوليين.. والمتحرشين!

الأحد 2017/02/19
"صراحة": منبر الفضوليين.. والمتحرشين!
الابتعاد عن مثل هذه التجربة يرجع لاعتبارات متعددة، أولها إمكانية انشغال البال بالتفكير بهوية صاحب الرسالة
increase حجم الخط decrease
منذ انطلاقته في منتصف كانون الثاني/يناير الماضي، تم تسجيل أكثر من 92 مليون شخص من مختلف أنحاء الدول العربية في موقع "صراحة"، مسجلين مشاركاتهم وتفاعلاتهم، التي سرعان ما تحوّلت إلى ظاهرة تجتاح مواقع التواصل الاجتماعي بعدما أتاح الموقع فرصة للمشاركين بالمصارحة في ما بينهم وبين أشخاص خارج الموقع، من خلال دعوتهم للتعبير عن آرائهم تجاه بعضهم البعض بعفوية وتجرّد، ضمن ميزة خاصة أرساها الموقع، وهي عدم الكشف عن هوية الشخص صاحب الرأي والتعليق، ما يجعل من المتاح إبداء أعلى قدر من الصراحة من دون الوقوع في حرج تحمّل رد الفعل، بحسب الشعار الترويجي للموقع. ويفترض أنه يفتح المجال للمشاركين لخوض تجربة فريدة تتيح لهم التعرّف على عيوبهم أو مزاياهم من خلال معارفهم أو أصدقائهم أو زملائهم في العمل، عبر رابط خاص يتيحه الموقع، وتحوطه السرّية التامّة.

"هل أنت مستعد للصراحة؟"، شعار حمله الموقع الذي أنشأه المبرمج السعودي زين العابدين توفيق، خريج علوم الحاسوب من جامعة الملك فهد، سعياً لإدخال مبدأ النقد البنّاء إلى مجال ريادة الأعمال، من خلال توفير منصّة تتيح التواصل بين العاملين والمدراء في المقام الأوّل  بهدف إتاحة الشفافية في التعبير وإبداء الملاحظات والانتقادات بعيداً من حرج الخوض في تبعات إبداء الآراء المتجرّدة، كما يهدف إلى تعزيز نقاط القوة وتدعيم نقاط الضعف من خلال التصويب عليها، سعياً لتحقيق المزيد من الانتاجية في مجال العمل.

إلا أن حجم الاقبال والتفاعل الذي حققه الموقع منذ لحظة انطلاقه فاق كل التوقعات، ما جعل المؤسس يعبّر لاحقاً في أكثر من تصريح صحافي عن أن نسبة المشاركة الهائلة تخطّت أهداف فكرته الأولى، لتتخذ سياقاً تصاعدياً جعل منها فكرة مبتكرة تجعل من كل الفئات العمرية، خصوصاً الشبابية منها، وضمن مختلف المستويات الثقافية والاجتماعية ترفع من مستويات التعبير وإبداء النقد في ما بينها، مرتكزة بالأساس على تطوير مفهوم النقد الذاتي من خلال منظور الأشخاص المحيطين بنا، معبّراً عن نيته وتطلعاته بتحويل فكرة الموقع إلى مشروع متكامل من خلال إتاحة استخدامه كتطبيق للهواتف الذكية تحت اسم الموقع نفسه، معلناً أنه لا يمانع بيعه شرط أن يكون المقابل مجزياً.

الفكرة التي انطلق منها موقع "صراحة" تبدو في أساسها مستوحاة مما قامت عليه اللعبة الشهيرة "الحقيقة أو الجرأة" Truth or Dare، والتي كان يتفاوت مستوى الجرأة أو الصراحة فيها وفقاً لاعتبارات عديدة، أبرزها طبيعة العلاقة بين الأفراد المشاركين في اللعبة، والغاية الكامنة وراء الأسئلة والتفاعل معها، والتي عادة ما تتنوع بين الرغبة في اختراق دواخل شخصية الآخر أو كسر الجليد أو التعرّف بشكل أكبر على مزاياه أو عيوبه أو استفزازه واختبار سلوكه وتعامله مع الإحراج أو معرفة رأيه الشخصي بالطرف المقابل الذي يشاطره اللعبة وجهاً لوجه، وأحياناً بين مجموعة من اللاعبين، ضمن المجال الذي يتيح رصد الفعل وردّة الفعل أولاً بأول. ما يجعل اللاعبين تحت وطأة التأثر والتأثير المباشر والفوري، ويضفي في بعض الأحيان نوعاً من المحاذير لعدم تخطي حدود معيّنة، بدافع المحافظة على علاقة الصداقة أو القرب بين الأشخاص المشاركين في اللعبة.

المحاذير هذه تخطتها فكرة موقع "صراحة" من خلال إتاحة التخفّي والاستتار، والتي حتماً تعطي المجال للأشخاص بالتحرر من مختلف القيود أو الاعتبارات، وهو ما يبرر حجم الإقبال الهائل الذي شهده الموقع في شهره الأول. فبديهية كون الشخص مجهولاً وافتراضياً يضفي إحساساً بالتحرر من وطأة الرقابة، ويُطلق العنان للأفكار والآراء التي قد تتعدد مآربها وتختلف بدورها وفقاً للغاية والهدف الذي قد يضمّنه الشخص لمحتوى رسالته تجاه الشخص الآخر، فيما يضفي التخفّي عند بعض الأشخاص جرأةً تحدو بهم نحو كسر حواجز التعبير كنتاج للاندفاع الممزوج بالقوة، متخففين من أعباء الإشكاليات التي قد تتأتى عن المصارحة على أكثر من مستوى. وهو ما أكّدته لـ"المدن" مجموعة من المشاركين في الموقع، ممن جذبتهم فكرة التخفّي المصحوبة بالقدرة على التعبير بحرية تامة لأصدقائهم وزملائهم وأشخاص مقربين أو حتى لأشخاص لم يملكوا الجرأة على قول رأيهم بأفعالهم أو أسلوبهم أو سلوكهم خارج نطاق الموقع.

مجموعة أخرى ممن استطلعت "المدن" آراءهم قالت إن الدافع للتسجيل في الموقع لا يعدو رغبة في التسلية والفضول والخوض في  تجربة ركوب موجة الـTrend، مضافاً إليها الشغف بمعرفة الآراء الحقيقية بهم. وفيما يعتبر البعض أن جزءاً من الرسائل التي وصلتهم حمل نقداً بنّاءً صوّب على بعض الأمور السلبية في سلوكهم وشخصياتهم، ما حفّزهم على التفكير الجدّي بمعالجتها أو الإقلاع عنها، إلا أن البعض الآخر اشتكى من محتوى مهين وجارح، لم يوفّر شكلهم ولا أسلوب كلامهم أو طريقة اختيارهم للباسهم. كما أن آخرين اشتكوا من تعرضهم لنوع من التحرّش والكلام البذيء، ما حدا بمجموعة من الأشخاص لإبداء عدم حماستهم للتسجيل في الموقع بسببه، مفضلين إقصاء أنفسهم عن خوض مثل هذه التجربة وفتح المجال بالسماح لآخرين بإبداء آرائهم بهم، محبذين الابتعاد عن ذلك لاعتبارات متعددة، أولها إمكانية انشغال بالهم بالتفكير بهوية صاحب الرسالة وعدم معرفة غريمهم في حالة التجريح، ما يستتبع الشعور بالحيرة والعجز أمام مواقف أو مسائل يمكن الاستغناء عنها أساساً.

لكن السبل والغايات التي يمكن استخدام الموقع لأجلها، كثيرة. إذ إن تنوع وسائل وسبل استخدامه ترتبط مباشرة بتنوع طبائع الأفراد وشخصياتهم وسلوكياتهم حسب بيئاتهم وثقافاتهم وبنيتهم الاجتماعية، حيث إن أنماط التفكير والسلوك وشكل التفاعل يحدده أساساً مستوى احترام الذات الراجع إلى البناء النفسي للشخص قياساً بمدى سلامته أو اضطرابه، ما يجعل لموقع "صراحة" مساهمته في تداعيات قد تكون خطرة في بعض الحالات، خصوصاً لدى الأشخاص ذوي الحساسية العالية وأصحاب ردود الأفعال الارتدادية المبالغ فيها، كالأشخاص المنغمسين في فضاءاتهم الافتراضية والذين يعيشون على إيقاعها. فمثل هؤلاء قد تصيبهم صراحة النقد أو وضوح التعبير أو عشوائية المصطلحات بأذى بالغٍ وعميق، قد تصاحبه نتائج وخيمة كون مثل هؤلاء الأشخاص ذوي مناعة منعدمة تجعل تأثرهم بالانتقادات أو التعليقات جدياً للغاية، مصحوباً بعدم القدرة على مواجهة أي نقد يشخّص واقعهم الأليم ويشير إليه، الذي عادة ما يحيطونه بحواجز إنكارٍ عالية، تسقطهم في لحظة كشفها والتصويب عليها. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها