السبت 2017/12/23

آخر تحديث: 15:58 (بيروت)

في سلسلة Easy: الحياة المدينية بالمفرق

السبت 2017/12/23
في سلسلة Easy: الحياة المدينية بالمفرق
increase حجم الخط decrease
رغم البساطة الظاهرية في سلسلة "Easy" التي تنتجها شبكة "نيتفليكس" العالمية، إلا أن مستوى مختلفاً من العمق والبراعة يتضح تدريجياً مع مرور الحلقات المنفصلة على مدى موسمين والتي لا يجمعها رابط واضح باستثناء التركيز على لقطات مكثفة من الحياة المعاصرة، لأفراد عاديين لا يشكلون ضمن مفاهيم الإنتاج التقليدية عناصر درامية مثيرة للاهتمام بحد ذاتهم.


وتطرح السلسلة أسئلة مشتركة لدى كل البشر في تفاصيل حياتهم اليومية، وتمزج الحالات الفردية الخاصة بالحالات العامة ضمن سياق حول طبيعة الخيارات الشخصية المتغيرة، والتي رغم اختلافها من فرد لآخر في حقبة زمنية تعلي من شأن الفرد على حساب المجتمع، تبقى مشتركة عند الجميع بلا استثناء لكونها تلامس الحاجات الأساسية الدنيا والتي تحددها في النهاية مقومات فكرية وأيديولوجية شديدة التعقيد، ترسم شكل المجتمعات المعاصرة، وتحديداً في المدن الكبرى التي باتت البشرية فيها وكأنها تعود لبدائيتها القديمة على المستوى الحضاري.


وإن كان البشر الأوائل اكتشفوا خياراتهم بشأن تنظيم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية وكيف يأكلون ويشربون ويصطادون ويشنون الحروب ويدافعون عن أنفسهم وكيف يبقون على قيد الحياة يوماً بعد يوم وكيف يتكاثرون ويغرمون وكيف يقضون وقتاً ممتعاً وكيف يختارون دينهم أو ينبذون آلهة أجدادهم، فإن الإنسان المعاصر مازال يحتفظ بالأسئلة نفسها والتحديات التي يواجهها كفرد معزول عن الآخرين في حقبة تفكك المجتمعات البشرية المتكتلة والتي تفرض أسلوب حياة واحد قسري على الأفراد، وهو حال المدن الكبرى اليوم في العالم والتي لا تختلف بين دبي أو برلين أو شيكاغو التي يعيش فيها أبطال السلسلة المختلفون.

وهكذا تضم الحلقات التي لا تتجاوز مدة كل منها نصف ساعة فقط، أحداثاً مثل استكشاف خيارات جنسية جديدة بين زوجين يشعران بالملل في ليلة واحدة أو تحول فتاة نحو نظام غذاء نباتي كي تثير إعجاب فتاة أخرى بعدما قررت تجربة المثلية الجنسية، وصولاً إلى موعد غرامي مثير للجدل بين روائي ورسام يوثق حياته العاطفية في روايات مصورة "كوميكس" مع فتاة أصغر منه بحوالي ثلاثين عاماً توثق حياتها فنياً عبر "إنستغرام" ولا يشكل الحب أو الجنس دافعاً للقاء بينهما بقدر ما تدفعهما الرغبة في صنع فن جديد مختلف، وتبلغ ذروة الدراما بينهما حداً لا يصدق عندما يتشاجران حول حقها في الخصوصية بينما يصورهما نحو 30 شخصاً في وقت واحد ضمن بث مباشر في "فايسبوك" ليصبحا موضوعاً فنياً ضمن أكثر من 30 سياق في اللحظة نفسها.

الجميل هنا أن كل هذه الشخصيات وغيرها، لا ترتبط في ما بينها بأي شكل من الأشكال ولا تتقاطع حيواتهم في نطاق الحلقات، ولا يظهرون كشخصيات عابرة في الشوارع أو المواصلات العامة أو في خلفية المشاهد، لأن المدينة الكبيرة تجمع ملايين الأشخاص في وقت واحد ولا تجمعهم في الوقت ذاته. وهو خيار مثير للدهشة من طرف المخرج وصانع المشروع جو سوانبرغ (36 عاماً)، الذي يتعامل ببراعة مع مشروعه التلفزيوني الأول، بعد تقديمه عشرات الأفلام السينمائية خلال العقد المنصرم.

ويبدو أن سوانبرغ وجد نفسه في بيئة العمل الاحترافية ضمن العصر الذهبي للتلفزيون لتقديم مشروع مصقول بعناية، ويعتبر واحداً من مجموعة كبيرة من صانعي الأفلام المستقلين الذين نقلوا اهتمامهم بالكامل نحو التلفزيون للوصول إلى قاعدة جماهيرة واسعة، وتقديم مستوى فني رفيع "غير تجاري" إلى الملايين من الجمهور بشكل لم يكن متوفراً لهم في السابق. ويجب القول أن هذا المزج المقصود بين النخبوي الذي يكاد يميل للتوثيق المباشر للحياة التي توضع كشرائح تحت عدسة المجهر الفني من جهة مع جو الترفيه المبهر الذي توفره "نيتفليكس" بالتحديد من جهة ثانية، يعطي نتيجة مثالية مسلية وكوميدية وعميقة في نفس الوقت.

والحال أن "نيتفليكس" تقدم في الفترة الأخيرة مجموعة من الأعمال الاجتماعية البسيطة التي تعبر عن الحياة المعاصرة من وجهة نظر فنية طازجة يقدمها مخرجون وصناع دراما من أجيال مختلفة، تلامس فيها الشبكة جانباً مشتركاً لأي مشاهد محتمل، لكونها تتطرق لمواضيع أساسية في الشخصية الإنسانية، مثل كيف نحب وكيف نمارس الجنس وكيف نأكل كيف نختار شركاء حياتنا وأصدقاءنا ووظائفنا ودورنا في الحياة وكيف نتأقلم مع تغير المجتمعات البشرية بسرعة نحو نمط جديد.

ويجب القول أن السلسلة تظهر أكثر من أي سلسلة أخرى، القيم التي تتبناها "نيتفليكس" كشركة لا توفر الترفيه فقط بل توفر منصة للفن والفلسفة أيضاً بشكل معاصر، حيث تعلي الشخصية هنا من قيمة الفرد وقيم التنوع والاختلاف والاندماج وتقبل الآخرين مع نبذ العنصرية والتطرف والأنماط المسبقة، والتي تنسجم مع الصورة العامة التي تبنيها "نيتفليكس" لنفسها على مستوى التصرفات مثل طردها للنجم كيفن سبايسي من بطولة سلسلتها الضاربة "هاوس أوف كاردس" بسبب قضية التحرش الجنسي. ويشكل ذلك جزءاً من استراتيجية "نيتفليكس" لتسويق نفسها أيضاً على المستوى العالمي بتبنيها فلسفات انهيار القوميات وما بعد العولمة.

وهكذا، تختلف السلسلة ونظيراتها مثل "Love" و"Chewing Gum" عن الكثير من إنتاجات "نيتفليكس" المبهرة على المستوى التقني والفلسفي مثل "بلاك ميرور" التي يتم فيها الحديث عن المستقبل البشري، أو "سترينجر ثينغس" التي تدمج الماضي بالنوستالجيا والرعب لتقديم ترفيه رفيع المستوى. ويعطي التركيز على الحاضر أنطولوجياً إحساساً بالتوثيق الفني لمرحلة حاسمة من عمر البشرية، باعتبارها مرحلة انتقالية من حقبة معرفية وإنتاجية إلى حقبة جديدة كلياً ما زالت غير واضحة ولا يجري الحديث عنها مطلقاً، خصوصاً أن السلسلة تغوص في اللحظة بشكل مكثف إلى حد تطابق الزمن الواقعي مع زمن المشاهدة أحياناً.

هذه الأعمال الكوميدية والجادة على حد سواء لا تغير بها "نيتفليكس" ببراعة طبيعة المشاهدة والإنتاج فقط، بل تغير نظرتنا وإدراكنا كجمهور عالمي إلى مفاهيم نمطية راسخة مثل الجمال والأهمية المجتمعية والقيمة الفردية، بإعطائها البطولة لشخصيات من الحياة اليومية لا تمتلك أي حضور استثنائي على صعيد الجمال الهوليوودي، لأن الفرد العادي هو البطل وهو المهم لمجرد كونه إنساناً ضمن المجتمع الإنساني الذي لا يضع تصنيفات عرقية ودينية وجنسية وجندرية ومجتمعية وجمالية وغيرها، مثلما كان سائداً في السابق، ليس على صعيد الطرح فقط بل على صعيد اختيارات الممثلين أنفسهم الذين يخرجون من النمطية الشكلي الـ"ستاندرد" في هوليوود، طولاً ووزناً ولوناً وملامحاً، والتي نمّطت تفكير ملايين البشر تجاه بعضهم لسنوات.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها