الأربعاء 2017/12/20

آخر تحديث: 13:13 (بيروت)

"كاسرات الصمت".. حفيدات "343 ساقطة"

الأربعاء 2017/12/20
"كاسرات الصمت".. حفيدات "343 ساقطة"
increase حجم الخط decrease
ربما لم تُزْجِ "كاسرات الصمت" تحيّة مباشرة للمناضلة النسويّة والوزيرة الفرنسيّة السابقة للراحلة سيمون فيل، لكنهن اتممن مساراً شقّته في العام 1970. مع "كاسرات الصمت" وصل الجسد النسوي في نضاله إلى حدود جديدة هي منع التحرّش جنسيّاً، ما يعني صعود امتلاك الأنثى مصير جسدها ومساره، وصولاً إلى اعتباره حدوداً يحمينها بالأهداب ورفع الصوت على السوشال ميديا، وكسر الصمت الثقيل إزاء تاريخ طويل من الاعتداء عليه، لفظياً وجسدياً. ويتّصل الدفاع عن حدود الجسد مع مسار في اكتساب الحق بامتلاك دواخله الأنثوية والأموميّة الذي قفز في ستينات القرن العشرين مع حبة منع الحمل، ممهداً لانتقال ذلك الحق النسوي إلى الثقافة والسياسة والمجتمع والقانون في سبعينات القرن العشرين، مع قوانين حق المرأة في الاجهاض اختياراً. في ظلال ذلك القانون، يمتد خيط بين "كاسرات الصمت" والوزيرة سيمون فيل التي دافعت بلسان طليق، على مدار جلسات طويلة أمام البرلمان الفرنسي، عن حق المرأة في الاجهاض اختياراً، فتحقّق في العام 1974. ولعلها مفارقة تحمل معنى أن رحلت تلك الوزيرة الديغوليّة بصمت في مستهل صيف 2017، فيما كانت نذر "تسونامي" كسر التابو الذكوري الثقيل بشأن التحرّش الجنسي، تتجمع، قبل أن يتفجّر في هوليوود (أليست معقلاً لخيال التحرّر الفردي ذكوراً وإناثاً؟) مع فضيحة المنتج هارفي واينشتاين.

ومع "كاسرات الصمت"، واصلت الأنثى رسم حدود سيادتها الفردية على شخصها وشخصيتها وكرامتها وحقها في التصرّف بجسدها الذي صار كأنه حدود سياديّة لها، فيكون مدّ اليد إليه اعتداءً عليها. لم يحدث ذلك بضربة عصا سحرية، بل بنضال دؤوب وصبور ومتشعب ودامٍ، كسبت فيه المرأة حقوقها نقطة نقطة إلى أن صار سيلاً لم يعد وقفه مستطاعاً.

 
وبمعنى ما، بدت "كاسرات الصمت" كأنهن حارسات بوابة الجسد النسوي الخارجيّة، فنلن كشخصية معنويّة مكافأة اختيارهن "شخصية العام 2017" من مجلة "تايم" الأميركيّة. وقبلهن، نالت المرأة حقوقاً متنوّعة على جسدّهن وفرديتهن "من الداخل"، بل بداية من أحشائهن التي تتجمّع فيها بداية حياة الكائن البشري، في تميّز أساسي يفرق بيولوجيا الأنثى عن الذكر.

وهناك مفارقة رافقت تواري سيمون فيل. إذ كان رحليها محمّلاً بجلال الصمت والتواري كأنما للقول بأن "المهمّة أُنْجِزَت" عبر إقرار أحد أول القوانين في إعطاء المرأة الحق بالاجهاض. وارتفع ضجيج كسر جدار أصم عن التحرّش عبر وسائل الاعلام كافة، خصوصاً السوشال ميديا التي منحت الحراك "هاشتاغ" صار إسماً له #كاسرات الصمت إضافة إلى Me Too#، كأنما للقول بأن مهمات اخرى كبرى ما زال متوجّباً إنجازها. 

مانيفستو "الساقطات"
اندفع النقاش عن الحق في الإجهاض في فرنسا، مع بيان شهير وقّعته 343 شخصية نسويّة بارزة، بينهن المفكرّة الوجوديّة سيمون دي بوفوار (صاحبة كتاب "جنس ثالث" المرجعي في الدفاع عن الحقوق النسويّة)، والروائيّتان مارغريت دوراس، وفرانسوا ساغان، والممثلة كاترين دونوف وغيرهن. نُشِرَ البيان الذي حاز سريعاً لقب "المانيفستو" اقتباساً من "المانيفستو الشيوعي" الشهير، في صحيفة "نوفيل أوبزرفاتور". وتجرّأن فيه على كسر جدار الصمت عن الرياء والهيمنة الذكوريّة، بأن أقررن بأنّهن أجهضن اختياراً، مع تحدي القوانين التي كانت تمنع ذلك آنذاك. كان تمرّداً مذهلاً للمطالبة بأن يكون للأنثى الحق في ممارسة إرادتها على المكوّن الأمومي في جسدها ونفسها وشخصيتها ودورها الاجتماعي، بل مجمل حياتها. إنّهن يحملن من ذكور لا يلبثون أن يمارسون هيمنة مرائيّة بأن يفرضوا إرادتهم هم على جسد المرأة فيكون الحق في الاجهاض رهناً بموافقتهم كأزواج وآباء وشركاء عائلة. وآنذاك أيضاً، لم تتردّد صحيفة "شارلي إيبدو" الساخرة بوصف ذلك البيان بأنّه "مانيفستو 343 ساقطة"، ما يدّل على عمق الثقافة الذكوريّة في المجتمع الفرنسي آنذاك. أليس رياء صافيّاً أن يكون سقوط الأنثى هو مطالبتها بحقها، وليس الوصول بها إلى حمل لا ترغب به؟ هل الحمل وإنجاب كائن بشري هو مجرد شأن بيولوجي ينجم عن التلاقح، أو أنّه شأن إنساني واجتماعي مركّب يجب أن تكون الحريّة والقدرة على اختياره، هي هواؤه الأول؟
 
في خريف 1974، شهد البرلمان الفرنسي جلسة استمرت متسلسلة ثلاثة أيام وليلتين، عصف فيها النقاش عن قانون "الوقف الاختياري للحمل". وبصلابة نسويّة رائدة، وقفت وزيرة الصحة سيمون فيل متسلحة بمنطق لم يكن مألوفاً في فرنسا، أمام البرلمان، لتردّ على الحجة بالحجة، على مدار تلك الجلسة التاريخيّة. وفي 29 تشرين ثاني، دخل عهد الرئيس فاليري جيسكار ديستان محطة تاريخيّة، بإقرار قانون الحق في الإجهاض، الذي فتح الباب أمام سلسلة قوانين مشابهة في دول كثيرة، معظمها في الغرب. 

يوجينيا وسيمون النازية
هناك ثنية اخرى في مسار سيمون فيل. في ذلك خضم تلك الأيام من النقاش العاصف، كيلت لها تهماً شتّى، بل واجهت وعائلتها ما اقترب من الشتائم. ولعل الأقسى بينها كان اتّهامها بالنازيّة، وهي يهوديّة الديانة، رُحّلَت من ألمانيا النازية في عمر الخامسة عشرة، بل فقدت والديها وأخاها في معسكرات الإبادة. وآنذاك، حاول اليمين الضغط على ذلك العصب المؤلم في حياتها، عبر اتهمامها بأنّها تسعى لإقرار قانون يقترب من مفاهيم الاصطفاء العرقي ("يوجينيا" Eugenie) الذي مارسه النازيون. لم تضعف، بل رسمت الفوارق الضخمة بين حق المرأة الفرد في التصرف في شأن أساسي في حياتها وجسدها، وبين تلك المقتلة التي ما فتئت تؤرق الذاكرة الإنسانيّة. واستطراداً، ساهمت فيل في إقرار قوانين بشأن الإبادة الجماعية لليهود (وغيرهم، كالغجر) في معسكرات "داخاو" و"آوشفيتز" وغيرهما. وليس خلواً من الدلالة ذلك الرابط بين رفض العنصريّة تجاه الأعراق الأدنى في نظر النازية، و"الكائن الأدنى" في نظر الذكوريّة.

وما زال النقاش عن ذلك الحق في الاجهاض غائباً عربيّاً، بل إنّ القوانين التي تحمي النسوية تراجعت في غير بلد عربي. (ربما ضحك كثيرون، لأن أشياء أقل صارت كأنها حلم، كحق المرأة في اختيار ما يناسبها من ملابس، أو الحق في ارتداء البوركيني، أو الحق في رفض الحجاب أو الزواج ممن ينتمي إلى ديانة مغايرة وغيرها، إضافة إلى الحق في العمل المتساوي الأجر، والحق في الوظائف العامة وممارسة النشاط الاقتصادي الخاص، والحق في حضانة الأولاد والسفر معهم، و... الحق في منح الجنسية للزوج و/أو الأولاد وغيرها).

ولعلها مناسبة أيضاً للتذكير بأن بلدين عربيّين على الأقل، أبديا تقدّماً في السنوات الأخيرة في مجال حقوق المرأة: المغرب (عبر مدوّنة الأسرة) وتونس عبر قوانين رافقت نقاش دستور ما بعد "ثورة الياسمين".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها