الثلاثاء 2017/12/12

آخر تحديث: 15:17 (بيروت)

"عين الموصل" يكشف هويته أخيراً

الثلاثاء 2017/12/12
"عين الموصل" يكشف هويته أخيراً
عاش عمر محمد في حياة كانت غالباً ما تدنو من الموت (أ ب)
increase حجم الخط decrease
طوال عامين، ظل المؤرّخ والمدوّن العراقي، عمر محمد، يتجوّل في شوارع الموصل متحدثاً مع أصحاب المحلات والأهالي ومسلّحي تنظيم "داعش"، بحثاً عن أخبار المدينة. وكان يزور أصدقاء في المستشفى، لا سيما صديقه الطبيب، وهو أحد أبرز مصادر أخباره حول المدينة التي كانت واقعة تحت سيطرة "داعش"، والتي كان محمد شاهداً فيها على تنفيذ إعدامات وعقوبات جَلد واعتقالات علنية.  


كان محمد يجمع الأخبار نهاراً، ويتحوّل في الليل إلى "عين الموصل"، ناقلاً للعالم عبر مدوّنته والحسابات الخاصة بها في مواقع التواصل، يوميات الحياة في ظل سيطرة التنظيم الوحشي وانتهاكاته لحقوق أهالي المدينة، ضمن مهمة سرية لتوثيق جرائم "داعش" أخذها محمد على عاتقه، من دون معرفة أهله أو أصدقائه، الذين أخفى عنهم الأمر لوقت طويل.

في 18 حزيران/يونيو 2014 أطلق محمد مدوّنة "عين الموصل" تحت شعار "لا تثق بأحد، قم بتوثيق كل شيء"، ليتحول هذا الموقع إلى أحد أبرز المصادر الرئيسية لأخبار مسلحي "داعش" وارتكاباتهم في مدينة الموصل. وجاء إطلاق هذه المدونة بعدما كتب محمد أول منشور له في صفحته الخاصة في "فايسبوك"، غداة اجتياح التنظيم للموصل، فحذره أحد أصدقائه من العواقب الوخيمة لهذا التصرف، الأمر الذي دفعه إلى التفكير في منصة بديلة، تسمح له بإخفاء هويته.

هكذا عاش محمد حياة، غالباً ما دنت من الموت. أطال شعره وأطلق لحيته ولبس سروالاً أفغانياً غطّى ثلاثة أرباع ساقيه، التزاماً بقوانين "داعش" في محافظة نينوى. أجبر نفسه على مشاهدة قطع الرؤوس والرجم بالحجارة، وسمع أسماء الضحايا بألسنة منفذي عمليات الإعدام والرجم، مدركاً أنه إذا ما انكشف أمره فإنّه سيلاقي مصير مَن كان شاهداً على قطع رؤوسهم من قبل. لكن ذلك لم يردعه يوماً عن الاستمرار في توثيق تحويل "داعش" مدينة الموصل التي أحبّها، إلى معقل أصولي، ماضياً في قراره بأن يظهر للعالم كيف حرّف المتطرفون وشوّهوا طبيعة المدينة الحقيقية الأصيلة، وكيف حاولوا إعادة كتابة الماضي وصياغة مستقبل سني وحشي لمدينة احتضنت ورحبت بديانات وطوائف مختلفة.


وفيما كان محمد ينشر تدويناته يوماً بعد يوم، كان جمهوره من القراء يزداد شهرياً بالآلاف. لكن صاحب "عين الموصل" قرر أن يحمل أسراراً أبت الجبال أن تحملها، على حد تعبيره. وهو عاش أياماً عصيبة، كلما مرّ على حواجز "داعش"، خشية أن يعتقله مقاتلو التنظيم ويعثروا بحوزته على القرص الصلب الذي يحتوي معلومات حول ممارستهم الوحشية، وأسماء المتعاونين والجواسيس والمقاتلين، والكثير من الأدلة منذ سيطرة التنظيم على المدينة.

في كانون الثاني/ديسمبر2015، قرر محمد أن وقت الفرار قد حان، وذلك بعد تزايد الضغوط عليه. وقبل ان ينكشف أمره، اتفق محمد مع مهرّب من أجل إخراجه من الأراضي العراقية إلى تركيا مقابل ألف دولار. غادر في صبيحة اليوم التالي، ونقل المواد المسجلة في جهاز الكومبيوتر الخاص سريعا ونسخها على "ديسك" بسعة تترابايت. قطع مسافة 500 كليومتر للعبور إلى الاراضي التركية، ولم يلتق بأحد في هذين اليومين. ولاحقاً انتقل محمد إلى أوروبا، حيث حصل على اللجوء في شباط/فبراير الماضي، وواصل من مكانه الجديد توثيق جرائم التنظيم بمساعدة أهله وأصدقائه الذين تواصل معهم عبر "واتس اب" و"فايبر" و"فايسبوك" بعدما كشف لهم أنه صاحب مدوّنة "عين الموصل". تلك اللحظة التي يتذكرها محمد جيداً، حين بكت والدته وتمنّت أن تكون معه لتحضنه، وقالت له "كنت أعرف أن شيئاً ما كان يحصل معك".

يشعر محمد اليوم بحرية تامة. ففي 15 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، كشف المدون والمؤرخ عن اسمه الحقيقي، مخاطباً متابعيه وقراءه بالقول "لا أستطيع أن أبقى مجهولاً بعد الآن. هزمت داعش. بإمكانك أن تراني الآن، بإمكانك أن تعرفني الآن". وروى محمد تجربته في مقابلة نشرتها وكالة "أسوشييتد برس"، بدا فيها متخففاً من حمل أثقل كاهليه خلال أحلك ظروف الموصل، وأكثرها قتامة في العصر الحديث، فقال: "كنت أكتب كل هذا للتاريخ، لإدراكي بأن هذا الكابوس سينتهي يوماً. الناس سيعودون إلى المدينة، والحياة ستعود إلى طبيعتها. لكن، بعد سنوات من اليوم، سيأتي أشخاص ليدرسوا ويبحثوا في ما حصل. الموصل تستحق أن يكون لها شيء مكتوب يوثّق الحقيقة ويساعد في الدفاع عنها، لأنهم يقولون إنه عندما تبدأ الحرب، فإن الضحية الأولى هي الحقيقة". 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها