الإثنين 2017/12/11

آخر تحديث: 15:38 (بيروت)

كاميرا حميميم وشبح الأسد

الإثنين 2017/12/11
كاميرا حميميم وشبح الأسد
increase حجم الخط decrease
إذا كان مشهد العناق الأول بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والسوري بشار الأسد، في مدينة سوتشي الروسية الشهر الماضي، دليلاً رمزياً على انتصار النظام السوري وقوة الأسد نفسه في الحرب المستمرة منذ سبع سنوات، وإعلاناً لعودة روسياً إلى المشهد العالمي كقوة عظمى انتصرت على القوى الغربية والإقليمية هناك.. فإن مشهد العناق الثاني في قاعدة "حميميم" الروسية في اللاذقية لم يكن سوى نسخة باهتة من المشهد الأول، تكرست عبره رؤية واحدة، مظلمة، يهين فيها بوتين حليفه المحلي الصغير.


الزيارة التي لم يعلن عنها إلا بعد انتهائها بساعات، كانت مفاجئة بسبب توقيت حدوثها فقط، لكنها لم تحمل مفاجآت بالنسبة لطريقة تعامل بوتين، ومن خلفه النظام الروسي ككل، مع الأسد، لا بوصفه رئيس دولة يقود فيها الشعب والجيش والسياسة في آن واحد، بل بوصفه موظفاً حكومياً روسياً أو رئيس بلدية ريفية صغيرة يتلقى شرف لقاء المسؤولين الأعلى رتبة والقادمين من "العاصمة".



والحال أن زيارة بوتين الأولى للبلاد، كقائد وزعيم سياسي وعسكري للقوة العظمى التي تدخلت في مسار الحرب وقلبتها رأساً على عقب العام 2015، لم تكن نحو العاصمة دمشق حيث الرمزية السياسية والدبلوماسية للنظام، بل نحو إحدى القاعدتين العسكريتين لروسيا في البلاد، وهما الوحيدتان لها في الشرق الأوسط، وقد سمحت لروسيا بتوسيع نفوذها الجغرافي نحو البحر المتوسط. 

الأسد الذي مشى طويلاً في قاعدة حميميم، إثر استدعائه إلى هناك على وجه السرعة بسبب طبيعة الزيارة "الخاطفة"، بدأ في الفيديو المتداول، شبحاً للديكتاتور المخيف، فتجرد من حراسه الشخصيين وهالته الرئاسية، وربما يمكن تخيّل تفتيشه بدقة قبل دخول القاعدة وتلقي الأوامر الصارمة بكل خطوة يقوم بها هناك بانتظار وصول بوتين لاستقباله كما يليق بموظف محترم وطيب، على سلم الطائرة، مع الضباط الروس، بوصفهم أسياد المكان، الذين يؤدون مراسم الاستقبال بالتحية العسكرية قبل بشار، الثاني في كل شيء.

من اللافت هنا أن العناق الأول في روسيا، اختلف كثيراً عن العناق الثاني. ففي الأول، كانت زاوية الكاميرا طبيعية إلى حد كبير، بدا معها الأسد واثقاً في خطواته بينما يستقبله بوتين بتهذيب ووقار. لكن الفيديو الثاني أتي من زاوية منخفضة ركزت على بوتين نفسه طوال الوقت، ما أظهره في مظهر مهيمن طاغ بصرياً، بينما يميل عليه الأسد بطوله الفارع بخضوع واضح، فيقصُر، ويبدو وكأنه يطلب البركات ويلتمس الرضا.

في ضوء ذلك، قد يكون العناق الثاني في مجمله ارتجالاً من الأسد، وخروجاً عن النص المرسوم له، بشكل يقارب التطاول على بوتين، وكأن الأسد سمح لنفسه بتكرار المشهد من دون أن يكون مخططاً له، مدفوعاً بوهم صداقة محترمة تجمعه مع "القائد الروسي الملهم". ويعزز هذا الطرح، تربيت بوتين السريع والمتذمر على ظهر الأسد، ثم ابتعاده عنه لينخرط في حديث سريع بواسطة بعض الضباط الروس الموجودين في الجوار، قبل أن يلقي كلمة كقائد أوحد لا وجود لسواه في المكان، ويتعزز ذلك بحقيقة أن لكل حركة ولقطة إعلامية روسية معنى ضمن سياق البروباغندا العام، لا يجب الإخلال به أو كسره.

والحال أن روسيا ضمنت بقاءها في سوريا إلى أجل غير مسمى في البلاد، عبر قواعدها العسكرية في حميميم وطرطوس، وقواعد أخرى، بفعل الاتفاقية الموقعة مع النظام السوري والتي كشف عنها أواخر العام 2016. وبالتالي، قد يكون مشهد مرور بوتين السريع إلى "ممتلكاته" في سوريا، قبل توجهه إلى مصر في زيارة رسمية، تعبيراً عن رغبة منه في الحصول على فروض الطاعة الإجبارية وإحياء للتقاليد العسكرية الروسية المستمدة من فلسفات إقطاعية في القرن التاسع عشر. 

سوريا، في هذه الصورة، هي تحت الوصاية الروسية في أقل تقدير، أو كأنها مقاطعة على أطراف الإمبراطورية الروسية. علماً ان هناك اقتراحاً من مجموعة سياسيين وناشطين روس، قُدم إلى بوتين مطلع العام الجاري، لإنشاء كونفدرالية بين سوريا وروسيا، وضم دمشق رسمياً كجزء من الدولة الروسية، وهو خيار لم يلقَ صدىً لدى الكرملين، لكنه يعطي لمحة عن طريقة التفكير الروسية في الحليف السوري.

في ضوء ذلك، يصبح إعلان بوتين سحب القوات الروسية من سوريا رسالة موجهة للقوات الأميركية التي أعلنت وزارة الدفاع "بنتاغون" قبل أيام عددها الذي يتجاوز الألفين، مع تقارير أعلامية واستخباراتية غربية تشير إلى رغبة البيت الأبيض في تعزيز وجوده شرقي البلاد وشراكته مع الأكراد السوريين هناك. وبالتالي يصبح سحب القوات الروسية المقاتلة رسالة من موسكو لواشنطن بضرورة الانسحاب على غرار النموذج الروسي، والفارق هنا أن الروس يحتفظون بقوتهم المتمركزة في قاعدتي اللاذقية وطرطوس، اللتين تمتلكان "شرعية" بسبب المعاهدة الموقعة بين الدولتين الروسية والأسدية، بعكس أي وجود عسكري آخر، بما في ذلك الوجود الأميركي. وهي نقطة تكررت في كافة بيانات الاتفاقات الأميركية - الروسية الأخيرة بشأن مناطق خفض التصعيد وفي بيانات مؤتمرات "أستانا" للسلام، وإن كانت تترك مسألة الوجود الإيراني غامضة وضبابية إلى حد كبير.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي يعلن فيها بوتين سحب قواته من سوريا، بل هي المرة الثالثة، بعد التصريحات الرسمية التي قدمتها وزارة الدفاع الروسية بهذا الصدد في كانون الثاني/يناير الماضي، حول تقليص عدد القوات الروسية في سوريا جزئياً، استكمالاً للانسحاب الأول الذي جرى في آذار/مارس 2016. وكانت النتيجة آنذاك، ارتفاع عدد القوات الروسية وتوسيع نطاق عملها هناك. وهي نقطة شكلت، اليوم، أساس المقاربات الساخرة والتشاؤمية بين السوريين في مواقع التواصل الاجتماعي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها