الثلاثاء 2017/10/17

آخر تحديث: 13:53 (بيروت)

عندما باحت هند بسرِّها

الثلاثاء 2017/10/17
عندما باحت هند بسرِّها
فندق "فور سيزنز" الشاهق فوق دمشق
increase حجم الخط decrease
في إحدى أمسيات دمشق الصيفية، جالسة أمام الكمبيوتر أحاول كسر الملل والرتابة التي نعيشها، بحثاً عن كتاب أو رواية أو شيء جدير بالقراءة مما يجود علينا به أصدقاؤنا المهجّرون في بقاع الأرض هنا وهناك، أفتح "يوتيوب" لكسر الصمت القاتل والهرب من أصوات الانفجارات الرتيبة. أحاول أن أجد فيه ما يحرض خيالي على العمل، فهذه البرامج أصبحت تعرف عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا، وأجد نفسي أمام أغاني فيروز كالعادة، وأبدأ بأغنية أحبها وأجد فيها ما يشبه حالنا اليوم أغنية "ما في حدا لا تندهي".


تمتد يدٌ لتحيط بيدي على "الماوس". يدٌ أحبها وأعشقها وأعشق النظر في تفاصيلها. إنها جدتي التي جاءت لتعيش معنا منذ خمس سنوات، بعدما هاجر الجميع ولم يبق أحد من الأحفاد والأبناء.

جدتي جميلة جداً. "تيتي"، كما باللهجة الشامية، ناصعة البياض، شقراء الشعر، ويبدو ذلك جلياً في الشيب الساكن بشغف بين خصلات شعرها المقاومة للزمن. شعرها الجميل الذي ما زالت تعامله حتى اللحظة كما تعامل فتاة عشرينية شعرها، فترفع غرتها على جنب فوق أذنها مثل حفيدتها التي ورثت عنها لون الشعر وعشق القهوة. عيناها خضراوان وزرقاوان وعسليتان في الوقت نفسه. رشيقة القوام، تعتني بأكلها وصحتها، رغم حركتها الصعبة مؤخراً بسبب أمراض الشيخوخة. ابتسامتها فيها بحر من الحنان، فيها قوة وثقة في النفس لا يمكن أن تراها إلا في ما ندر.

جدتي من الشخصيات الإيجابية، قادرة ان توزع الفرح والحب على كل من حولها. تحب الجميع وتضحك لأبسط الأمور. وجودها بيننا وفي بيتنا وفي الغرفة الملاصقة لي، كان أسعد ما حصل لي في السنوات الخمس الماضية. تعتني ببشرتها طوال الوقت، وتدهن الكريمات على يديها ووجهها، تضع قطعة السكاكر في فمها كي تحافظ على رائحة أنفاسها العطرة، لا تدخن، وتلمح إلى تدخيني السري أحياناً. مغرية كابنة ثلاثين. تستعمل عطراً يميز حلولها في كل مكان، حتى طريقة وضعها للعطر تغريك بالمراقبة وانتظار الرائحة.

تمد يدها على "الماوس" وتقول: "خليها تيتي، خليها". وتبرق عيناها، وتنظر في عيني مباشرة، وتبتسم، لكن ليست ابتسامتها المعهودة التي أحبها. تحاول أن تخفي دمعة تلألأت في طرف عينها، خانتها الدمعة ونزلت لكن ابتسامتها بقيت حتى انتهت الأغنية. ظلت يدها فوق يدي، ضممتُ يدها، ووقفت وضممتها، وغادرت عينيّ دموعي من دون أن أنتظر منها كلمة، كان ذلك جلّ ما استطعت فعله.

ضمتني، ورجعت ضحكتها القديمة، وقلت لها: "بيرجعوا تيتي، لا تحمليها زيادة، بكرا إذا هديت الأحوال بيرجعوا". فتقول لي بابتسامة فاتنة: "ماني عم فكر فيهن لك تيتي"، وسحبت خصلة شعر من غرّتي خلف أذني، وقالت: "قومي عملي فنجان قهوة لإحكيلك قصة حلوة كتير، صرتي صبية وحلوة بيقدر الواحد يحكيلك أسراره، قومي لإحكيلك سر قديم، لا تكتري سكر، رشة خفيفة، وجيبيلي سيجارة من عندك، بعرفك بتدخني، عانّة عبالي سيجارة".

بيتنا قريب من ساحة النجمة، شرفته صغيرة، الشارع شبه فارغ، أريد أن استغل الفرصة قبل عودة أمي وأخي إلى البيت من عند عمتي في حي شرقي التجارة. حملت جدتي فنجان القهوة والسيجارة بطريقة توحي بالخبرة، كانت المرة الأولى التي أرى فيها جدتي تدخن: "إي تيتي كنت دخن بالزمانات، من شي 30 سنة".

تبدأ جدتي بالكلام سارحة بعينيها نحو البعيد: "شايفة هادا الأوتيل، الفورسيزن؟ البشع كتير؟ هون كان بيتنا العربي زمانات، بزقاق الصخر، كنا على كتف بردى، وبقلب الشام، بيوت عربي ساندة حيطانها على بعضها، وكانت أمي من أحلى نسوان الحارة، وكانت مدرستي قريبة، كان اسمها المدرسة الجديدة بساحة عرنوس، انهدّت وطلع محلها نقابة المهندسين، كنا نتفرج على شباب التجهيز، وهنن يتفرجوا علينا، كانت الناس أكابر، لسا تأثير فرنسا موجود عالشارع والناس، كانت الناس تلحق الموضة وتلبس على آخر طرز، وانا كنت إمشي بالطريق وقول يا أرض اشتدي ما حدا قدي".

تعود للحديث بعد سحبة دخان: "بالصيفية وقت تعطل المدرسة، كانت عيل الشام تبعت بناتها يتعلمو خياطة وتطريز، كان الخياط يلي بعتوني أهلي لعندو بشارع الحمرا، كان شارع الحمرا غير شارع الحمرا تبع هلأ، كان بيوت عربي حلوة كتير، بيوت شرحة وقريبة من بعضها، شبابيكها عالشارع وعالزقاق".

"بيوم من أيام الصيف الحلوة، بعد ما خلصت درس الخياطة، بيلحقني شب حلو، حلو كتير، قد ما قلك حلو بكون مقصرة، شافني وأنا فايتة لعند الخياط، كان واقف على شباك بيتن العربي، بيضل لاحقني لأوصل عباب البيت، بيفوت ورايي بالحارة لباب بيتنا، وانا كل شوي عم اتطلع فيه لحتى فتت عالبيت. أخدلي عقلي بدك تقولي، وضليت اتذكر صورتو كل اليوم. تاني يوم لقيتو واقف عالشباك نفسو، قطعت عنو شوي، رجعت لقيت الشباك مفتوح وهو مو عالشباك، وقفت، احترت شو بدي اعمل، بعدين قويت قلبي، ودفشت باب بيتن المردود رد بإيدي ولقيت حالي قدامو وجهاً لوجه، بأرض الديار تبعهن، هو جمد، من رعبتو سمى بالله شي عشر مرات، افتكرني جنية"، وضحكت من أعماق قلبها.

"قمت دغري قلتلو: ليش لحقتني مبارح على بيتي؟ جمد، ما عرف يجاوب، بعدين تشجع وقلي لأنك حلوة كتير".

وقعنا في الحب، وصرنا كل يوم نقضي الوقت سوية، وجاء الشتاء، وعادت المدرسة، صرت أهرب من المدرسة كي أراه: "مرة عملت فصل جنان وخليتو يفوت لعندي عالبيت تهريب، على غرفتي، غرفتي تماماً هلأ كانت تطل على  جنينة المنشية بهالأوتيل البشع".

ثم أتى ذلك "اليوم اللعين"، حينما طلبتها المديرة لتقول لها أنه لا يمكنها الحضور للمدرسة من دون ولي أمرها، فغياباتها أصبحت غير مقبولة وتثير التساؤلات. قالت جدتي لحبيبها: تعال إلى المدرسة وسأخبرهم انك أخي الكبير، أصرخ فيّ واشتمني، وإذا اضطررتَ اضربني، هذا إن كنت تحبني حقيقة.

أقاطعها: أين جدي منك في تلك الأيام؟ كيف أتتك الجرأة لفعل ذلك؟

فتجيبني: "أبي كان يكرهني، أو هيك حس، كنت ذكره بأمي، بعد ما أمي هربت مع ضابط مصري بوقت الوحدة، وتزوج فوراً وحدة تانية، كانت تنقط سم، كذابة، بمليون وجه ووجه، كانت تكرهني وكنت أكرهها، كانوا يخنقوني خنق، كنت إذا أكلت معهن على نفس الطاولة حس سم عم ينزل ببطني، كانوا يعتبروني هم بدن يخلصوا منو، تخيلي إني مرة انتحرت من وراهن؟ شربت حبوب ضغط تبع أبي، وخفت، قلت لأختي الصغيرة قوليلن يسعفوني، خفت من الموت يلي كنت إتمناه، كذاب يلي بيقلك بدي موت لإرتاح".

يأتي اليوم المشؤوم، ويكتشف الطاقم التدريسي الحقيقة. تتابع جدتي، وكانت الفضيحة قد أدت إلى حرمانها من المدرسة وحبسها في المنزل مع تشديد الرقابة على كل حركة تقوم بها: "راحت الأيام شي سنة، هون بيكونو بلشو يهدّوا شارع الحمرا، وبيهدوا البيوت وبيتو بالقفلة، بقدر افركها من البيت، وبركض لعند بيتو، ما بلاقي البيت، بلاقي أساسات وحفريات، الدنيا عتمت وانا واقفة ناطرة، بركي بيمرق، بركي بيجي، وصارت الدنيا ليل، تخبيت بقبو مبني منو شوي، بيحس عليي الناطور، بيفتكرني حرامي جاي يسرق بلوك يمكن، بيمسكني وبيحتار والله بيحيرو شو بدو يعمل فيي، وانا ما عم جاوبو على شي، آخر شي بياخدني عالشرطة، بيسألوني: من هون لهون شو عم تعملي عندك؟ بقلن جاية لعند فلان. بياخدوا الإسم وبيخلوني بالمكتب عندن وبيغطوا شي 5 ساعات، وإذ جايي رشدي، قلتلك إنو إسمو كان رشدي؟ جايي ولابس بدلة عسكرية، شحطوه الشرطة العسكرية من خدمته العسكرية، افتكروه خاطفني أو محرضني أهرب من بيت أهلي".

تبرئ جدتي ساحة حبيبها وتعلم الشرطة بالحقيقة، وتطلب منهم عدم إرسالها إلى منزلها ولحياتها الرديئة هناك، فتفشل في ذلك، وتعود رغم أنفها... "بتعرفي شو تيتي؟ أنا ما كنت بدي اتجوز رشدي، كنت بس بدي شوفه".

وتكمل: "بقيت بعدها محبوسة في البيت سنتين، وجوزوني جدك الله يرحمه، كان آدمي، يمكن عرفان بقصتي، يمكن لاء، بس بحياتو ما قللي شي، كان شهم، كان يقللي كلام حلو ويحن عليي، وجبت أمك وخالاتك وخوالك التنين، ونسيت رشدي ونسيت بيتو، يمكن صار نوفوتيه، وبيتنا صار اوتيل".

أغنية فيروز كانت الصاعق الذي فجّر ذاكرة جدتي على أجمل قصة حب ومغامرة عاشتها تلك الأيام. أيام مضت وتغيرت خلالها الأحياء والمدينة والوجوه والهواء والطرق. لم يبق إلا جدتي لتحكي لي هذه الحكاية. تكمل قهوتها، سارحةً في زمن آخر. أراها تمشي في تلك الأزقة من جديد، تعيد بناء المدينة والحي الذي تحب، ودموعي لا تتوقف. وضعت جدتي يدها تحت خدها على سور الشرفة الحديدي الأخضر، عيناها باتجاه شارع الحمرا، وغرتها تنسدل على جبينها وابتسامتها على وجهها الجميل.

جدتي كان اسمها هند. لم يخلق الله بعد أجمل من هند. وهل هناك أجمل من اسم هند؟ تلك حكاية هند.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها