الأحد 2017/01/29

آخر تحديث: 17:43 (بيروت)

"داعش".. الجيل الثاني

الأحد 2017/01/29
increase حجم الخط decrease
رغم التقارير الغربية التي تفيد أن تنظيم "داعش" ينحسر تدريجياً إثر فقدانه العام الماضي فقط حوالى 45% من من الأراضي التي استولى عليها في العراق، و20% منها في سوريا (بنتاغون)، إلا أن التنظيم المتشدد يبدو أكثر تماسكاً وخطورة على المدى البعيد مما ترسمه تلك الرؤية القاصرة، مع ظهور الجيل الثاني من مقاتلي "داعش" وهم أبناء "مجاهدين" محليين وأجانب، قتلوا في معارك التنظيم المختلفة خلال السنوات الماضية، وتم تأهيلهم ليصبحوا قادة المرحلة المقبلة.


وركزت ماكينة البروباغندا الداعشية، خلال الأشهر الماضية، في إصداراتها المرئية، على "جيل الخلافة الجديد"، مع فرد مساحة واسعة فيها للمهاجرين الأجانب - الأوروبيين بشكل خاص - بدءاً بإصدار "طريق الآباء" في حزيران/يونيو الماضي الذي كان أشبه بفيلم وثائقي عن أبي مصعب الفرنسي وهو مقاتل داعشي لا يزيد عمره على 12 عاماً، قتل والده أبو دجانة الفرنسي في منطقة الشيخ سعيد بحلب، وتم تأهيله بسرعة ليصبح اليوم في مكانة والده الذي يعتبر، بحسب رمزية الفيديو، واحداً من مؤسسي الخلافة. وفي الفيديو لقطة رمزية لمقاتل داعشي يرفع طفلاً على كتفيه ويسلمه راية التنظيم ليرفعها عوضاً عنه.

وخلال الأشهر الستة الماضية، خرجت خمس إصدارات على الأقل، تركز على الجيل الثاني من المقاتلين لدى "داعش"، هي: "طريق الآباء"، "أحياني بدمه"، "حدثني أبي"، "أولئك آبائي" و"جيل الخلافة"، وبعضها يتشارك اللقطات نفسها وكأن الإصدارات صوِّرت في فترة واحدة ومكان واحد، مع أطفال يتامى من جنسيات مختلفة (سوريا، العراق، الشيشان، تركيا، قرغيزستان، ..)، وهم يتدربون ويقتلون ويتعلمون العنف ويعقدون مقارنات بين الإسلام والغرب الكافر أمام الكاميرا، ويرعون إخوتهم الصغار والرضع متحملين مسؤولية آبائهم الموتى.

وتحمل كل تلك الإصدارات الفلسفة نفسها، حول استمرارية "الخلافة الإسلامية" عبر التكاثر وأن الموت ليس نهاية المقاتل الداعشي الذي يفجر نفسه أو يقتل في غارة لقوات التحالف، طالما أنه ترك وراءه مجموعة من الأطفال الذين يتم تجنيدهم من سن الخمس سنوات في معسكرات خاصة للتدريب العسكري، قبل مشاركتهم الحية في المعارك وتنفيذ الإعدامات. ويتم حث الأطفال بدورهم على الإنجاب في هذه السن المبكرة "لضمان استمرارية العقيدة الصحيحة".

وكبقية الأطفال الذين يجندهم "داعش" للقتال في معسكراته المختلفة، مثل "أشبال الخلافة"، يبدو وضع أبو مصعب، الطفل الوحش، مخيفاً، فلا يمكن أبداً التعاطف معه ونحن نراه يقتل بصورة دموية ويتدرب على مختلف أنواع الأسلحة، في معرض حديثه عن وصية والده القديمة له بالسير على الطريق نفسه، ورعاية أخيه الصغير على المبادئ الإرهابية ذاتها. ويصبح مجرد التساؤل حول مصير أولئك الأطفال جميعاً، مخيفاً سواء كانوا لا يزالون على قيد الحياة أم تمت تصفيتهم أو نقلهم إلى دول أخرى "لإصلاحهم".

والحال أن هذا الزرع المبكر والتلقين للأفكار الداعشية لدى الأطفال هو المشكلة الأكبر، لأنه يقضى على الأحاسيس الإنسانية في حين لا نموذج بديلاً أمام الأطفال لمقاومة تلك الجريمة بحقهم، خصوصاً أن التنظيم يعمد إلى تكريس بعض مقاتليه صغار السن، كأبي مصعب تماماً، في صورة بطل أسطوري، لعيون المقاتلين من جيله، سواء من الناحية القتالية أو الدينية أو العائلية، بحيث يكون العنف هو مصدر التفكير الوحيد.

وهكذا تتغير هوية هؤلاء الأطفال وانتماءاتهم. فإن كان أهلهم أبناء مهاجرين جزائريين مثلاً ويشكلون الجيل الثالث أو الرابع للجزائريين في فرنسا، يفقد أبناؤهم تلك الصفة ويتحولون عقائدياً إلى أبناء الجيل الثاني من دولة الخلافة، ويأتي التبرير لهذا النوع من الانتقال والشرخ في الهوية، عبر فتاوى داعشية ضمن جميع الإصدارات المرئية، تفيد بأن رابطة العقيدة أقوى من رابطة الدم والنسب، وأن قطع الصلة بالماضي القديم والتنكر للعائلة ليس إثماً ولا قلة أخلاق بل هو واجب جهادي ضد الكافرين، مع عرض مستمر لنموذج إسلامي قديم هو مصعب بن عمير الذي أشرف بنفسه على أسر أخيه بعد معركة بدر، معتبراً أنه فقد صلته الأخوية به لأنه "كافر"!

وعليه تصبح العلاقة مع الدولة الأم، علاقة انتقام للأب الميت، تحركها الفكرة الراديكالية بأن الغرب كافر وشرير، وتتعاظم تلك الفكرة في رؤوس أطفال "داعش" مع إلقاء مسؤولية موت آبائهم من قبل معلميهم ومربيهم الجدد، على "أعداء الإسلام". فلو كانت فرنسا مثلاً دولة إسلامية، لا عدوة، لما اضطر الأب للهجرة ثم الموت: "لن نعود إلى فرنسا وإن عدنا فسنعود فاتحين لدين الإسلام، ولو كان والدي على قيد الحياة كنت سأستأذنه في عملية استشهادية أو في العودة إلى فرنسا والتفجير هناك ثأراً لدماء المسلمين"!

ومن المثير أن تلك الفلسفة العنفية بين العقيدة والدم تبدو شديدة التداخل. ففي الإصدار نفسه، يقول المعلق: "تسلم الابن الراية بعد أبيه، وهكذا يكمل الأبناء ما بدأ به الآباء، حتى يسلم آخرهم الراية لعيسى عليه السلام وهذا هو حال أبناء الشهداء في الدولة الإسلامية"ّ. ويأتي تفسير ذلك في مقطع فيديو آخر بعنوان "أولئك آبائي" حيث يظهر آباء مقاتلين داعشيين قتلوا في معارك التنظيم، وبعضهم يرعى أبناء قتلى آخرين، ويؤكد الإصدار أن الأب هو الذي ينقل العقيدة الجهادية لأبنائه ليس بسبب صلة الدم بل عن طريق التربية.

يتعزز ذلك التفسير في إصدار "أحياني بدمه"، الذي يظهر فيه طفل كردي في الثالثة عشرة من عمره، اختطف على الأغلب من أهله قبل سنوات، رغم أنه في سياق الفيلم يؤكد التحاقه بالتنظيم من تلقاء نفسه، فربّاه أحد "الأنصار" وهي التسمية التي تطلق على المهاجرين إلى دولة "داعش" من الدول الأجنبية، من دون الكشف عن هوية الأب، فيما يتحدث سياق الفيلم عن عمليات منظمة لتربية هذا النوع من الأطفال على أيدي المقاتلين المهاجرين وإعدادهم ليكونوا انتحاريين، وعلى ما يبدو فإن هناك تراتبية معينة، بحسب الدولة الأصلية التي أتى منها الأب، تجعل بعض الأطفال مشاريع انتحاريين والبعض الآخر مشاريع قادة مستقبليين.

في ضوء ذلك، اعتبر التقرير السنوي الأخير للشرطة الأوروبية "يوروبول" حول الإرهاب في الاتحاد الأوروبي، الصادر في شهر آب/أغسطس الماضي، أن هؤلاء الأطفال باتوا مصدر قلق متنام، وتهديداً أمنياً خطيراً، حيث ترجح عودتهم لتأجيج الأفكار الأصولية في البلدان الأوروبية، في موازاة خلق التنظيم هالة أسطورية حول أولئك الأطفال في إصداراته المرئية بشكل يكرسهم أبطالاً خارقين ونموذجاً لبقية الأطفال الذين يجندهم، ما يجعل دوامة العنف في رؤوسهم غير قابلة للتوقف.

والحال أن هذا النوع من الإصدارات ليس فقط تباهياً من "داعش" بالقوة والاستمرارية بل يحمل أيضاً رسائل تهديد كثيرة للدول الغربية، تفيد بأن الحرب مستمرة لأجيال، خصوصاً أن عدد الأطفال الداعشيين يعتبر كبيراً وقابلاً للزيادة، رغم أنه لا أرقام دقيقة بهذا الخصوص، ومن دون أن تتوافر عنهم أي معلومات حول أسمائهم وأشكالهم وتاريخ نشاطهم وأماكن تواجدهم الفعلية.

فعلى سبيل المثال قدرت مؤسسة "كويليام" البريطانية لمكافحة التطرف، في تقرير لها العام الماضي، بأن هناك أكثر من خمسين صبي يعيشون تحت نفوذ "داعش" فيما يوجد أكثر من 30 ألف امرأة في فترة الحمل، بينما تقدر أجهزة الاستخبارات الفرنسية وجود 400 طفل مجند لدى "داعش"، من والدين فرنسيين أو انطلقوا في رحلتهم من فرنسا، كما تقول تقارير عراقية موازية بأن "داعش" جنّد 500 طفل من مدينة الموصل وحدها العام 2016.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها