الإثنين 2016/09/26

آخر تحديث: 19:05 (بيروت)

الموت في زمن "فايسبوك"

الإثنين 2016/09/26
الموت في زمن "فايسبوك"
increase حجم الخط decrease
لم يعد الموت في زمن "فايسبوك" موتاً طبيعياً، بل أصبح حالة تشكل فترة إضافية أو وقتاً مستعاراً من حياة الميت نضيفه لحسابه بعد الموت. يبدو أننا إستحدثنا طقساً جديداً نضيفه إلى مجموع الطقوس التي نتعامل بها مع الموت وما بعده.

يتحوّل الناس بمرثياتهم إلى قرّاء قبور، يتلون على الميت ما لم نكن نسمعه من قبل. قرّاء مرثيات لا تشبه الآيات، بل تحاول أن ترتقي إلى القصيدة الهشّة بصُور وإستعارات مبتذلة. يحدث الموت ويضع حداً لحياة أي شخص، لكننا سرعان ما نبادر، واهمين، إلى إطالة حياة قد إنتهت للتو. لا يمكن إستعادة من فقدناه بينما نستعيد أنفسنا في لحظات ماتت. إننا نستعيد الحياة الماضية لنقتلها مرتين.

بات الموت مناسبة لإحياء لسان الميت، ما أن نسمع خبر فقدان أحدهم بعد صراع مع المرض أو إنتحار بكافة أنواعه حتى نجد المرثيات حاضرة. كأن هناك قالباً يُسكب فيه الكلام عند كل حالة وفاة. قد يكون الرثاء عاملاً مخففاً للحزن أو ربما إلهاءً لعائلة الفقيد وأصحابه مؤقتاً ريثما يمر جزء من فترة الحداد. لكن الملفت في الموت في صفحات التواصل الإجتماعي هو فعل "الثرثرة". الثرثرة عن الميت وعلى لسانه، لنصبح أمام هول الجملة التالية: الميت إن حكى. بتنا نجعل موتانا جثثاً هامدة يتدلى منها لسان مشحون بكلامنا. نحيي اللسان بألسنتنا. نحركه وندفعه حتى النطق بما لم ينطق به صاحبه في حياته. نروي ونقصّ أخباراً وتفاصيل ربما لم يكن الميت ينوي سردها لنا قبل وفاته.

"إذكروا محاسن موتاكم" تماماً كما رواه الترمذي. في الإقتصار على محاسن أمواتنا ندفن الجانب البشري للميت ونرفعه صوب التقديس. ألسنتنا الثرثارة، تضفي هالة قداسة حول الميت، تلعق ظهره مفسحةً المجال لينبت ريش أجنحة الملائكة. لكن ماذا لو كان الحي يريد كتمان ما قمنا بنشره بعد موته؟ فمن نرثيه بهذا النوع من الثرثرة ربما أراد أن يدفن معه تفاصيل شؤون تعنيه.

إن ألسنتنا تتحول عند الموت إلى رفش ينبش قبور الميتين. نرثي بحثاً عن توكيد الصلة بالميت "القديس" والمساهمة في العزاء الكرنفالي. ننبش لحظات حميمية للميت لم يدرك يوماً في حياته أنها مادة للنشر وهو راقد بسلامه تحت التراب. وفي طريق الترفيع إلى رتبة القداسة، يتحول الميّت إلى حالة قد لا يتعرف عليها أكثر الناس قرباً منه.

يظن بعضنا أن الرثاء تعويض عما فقدنا، بيد أنه يتبين هنا خسارة إضافية. فتذهب "الأنا" المتورمة عند الثرثارين الى نزع خصوصية عن الحياة والموت معاً. هذه الأنا تسعى على الدوام إلى تأصيل وجودها في مناسبات مختلفة على حساب الحدث نفسه. تُأصّل وجودها في حياة الآخرين ومماتهم. تُحيك الأنا، مرويات الرثاء انطلاقاً من تخطي العلاقة مع الحي/الميت فتدمر العلاقة عبر التخطي وتصادر قرار الإفشاء وحقه حتى تصل إلى أن  تصبح الأنا هي الحدث.

يبدو الميت حيّاً فينا، حرفياً. الميت أنا، وأنا الميت. يحدث كل هذا بعيداً من صقيع التراب الذي يلف الميت بصمته. يحدث بإصرارنا على ضرب الميت من أجل النطق. الميت ليس تمثال داوود، ولسنا على شاكلة مايكل أنجلو. الميت إتصال صمتين في أغلب الأحوال. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها