الإثنين 2016/09/26

آخر تحديث: 18:58 (بيروت)

ناشيونال جيوغرافيك: "الأوروبيون الجدد" وأسئلة الهوية المعاصرة

الإثنين 2016/09/26
ناشيونال جيوغرافيك: "الأوروبيون الجدد" وأسئلة الهوية المعاصرة
increase حجم الخط decrease
تبعث مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" في عددها الجديد (أكتوبر 2016)، برسائل ثقافية وسياسية شديدة الأهمية، وهي بعنوانها "الأوروبيون الجدد" المترافق مع صورة ضخمة لمهاجرين سوريين، لا تقصد إثارة الانتباه بطريقة صادمة كأداة جذب رخيصة، بل تضع زبدة نقاشها الجوهري في العنوان بأبسط طريقة ممكنة، مشرعة به حواراً دسماً حول الانتماءات الجديدة التي بدأت تتشكل في أوروبا، مع موجات اللجوء الكبرى نحوها مؤخراً وجذور القارة العجوز تاريخياً مع المهاجرين منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.


لا يحمل العنوان أو طريقة تناول الموضوع، حساسيات فكرية أو ثقافية، ومن السخيف اتهام المجلة بالعنصرية من قبل أفراد عبر مواقع التواصل الاجتماعي، في رد فعل تكرر خلال اليومين الماضيين تجاه الصورة والعنوان فقط، من دون إلقاء نظرة عميقة على المحتوى الغني الذي يقدمه التقرير المرافق، والذي أشرف عليه ببراعة الكاتب الصحافي روبرت كونزيغ والمصور روبين هاموند.

ويستحق الجهد الإعلامي المبذول في التقرير الإشادة والإعجاب، ولا توجد مفاجأة في ذلك نظراً لسمعة "ناشيونال جيوغرافيك" كمجلة مرموقة تصدر منذ العام 1888 بالمعايير المهنية العالية ذاتها، وكقائدة للنقاشات الإعلامية الأكثر آنية على الكوكب، وتبرز هنا طريقة العرض الجذابة والحديثة لمقاطع الفيديو والصور، إضافة لكمية المعلومات الدقيقة والخرائط والإحصائيات المرفقة، والقدرة على وضع كل تلك البيانات ضمن سياق لغوي واضح، لا ينحاز لأي فكرة على حساب آخرى.

في ضوء ذلك، يطرح التقرير تساؤلات حول قيم جدلية تتغير بشكل متسارع على الكوكب ضمن فلسفات وأحداث القرن الحادي والعشرين: ما هي الهوية؟ وما هو الوطن؟ وهل يحق لنا الحكم على الآخرين لمجرد أنهم ولدوا في مكان مختلف أو قدموا إلى "الدولة" من دول أخرى؟ وهل نحن نشبه بعضنا العض فعلاً لمجرد إنسانيتنا مهما كانت انتماءاتنا الفكرية والعرقية كما يقول الراهب الهنودسي بوجاري رافال هاريش، في إحدى مقابلات الفيديو؟ أم نحن مختلفون بشكل جذري إلى حد لا يمكننا معه العيش جنباً إلى جنب، كما يرى النازيون الجدد أو المهاجرون الرافضون لفكرة الاندماج؟

لا يستطيع التقرير تقديم إجابات عن تلك الاسئلة بطبيعة الحال، لأن كل تلك النقاشات ما زالت في سياق التشكل، والتمهيد لعالم جديد يخلق الآن، ليس بفعل تيارات الهجرة التي تخلق صراعات في الهوية، أو فلسفة صراع الحضارات التي تحدث عنها صامويل هنتنغتون منذ تسعينيات القرن الماضي فقط، بل بسبب قوة التكنولوجيا في خلق عوالم وهويات بديلة، وتقريبها للمسافات الجغرافية بطريقة تسلب الدول القومية السياسية نقطة قوتها في احتكار مفهوم الهوية القومية على أساس الارتباط بالمكان والجغرافيا.

بموازاة ذلك، تأتي الإجابات من أفواه اللاجئين مباشرة، كاحتمالات برؤى متباينة تصل إلى حد العدمية الإسلامية التي ترفض فكرة الانتماء الأرضي لحساب الانتماء للحياة الآخرة (سيركان أوزالباي)، ويتحدد كل ذلك بعناصر ديموغرافية أولاً مثل السن والدّين ومستوى التعليم، فالأشخاص الأكبر سناً يشعرون بانتماء أكبر للوطن القديم من الأطفال أو الشباب، لتصبح العادات العامة مثل الاحتفال بعيد الميلاد أو مصافحة النساء والهوية الجنسية ومعاملة المثليين معايير للحكم على الهوية الجديدة والاندماج من قبل المحليين.

ويركز التقرير على الانغلاق المضاد الآتي من المهاجرين أنفسهم، مع ميل بعضهم في دول محددة للتكتل في كانتونات ثقافية ضمن المدن الكبرى، كحالة الجالية الإسلامية في لندن أو التركية في برلين، والتي لا تشبه الأحياء الصينية أو الإيطالية في المدن الأميركية، بسبب طابع الانغلاق فيها والذي يؤدي لفرض قوانين محلية متطرفة ثقافياً مثل شرطة الشريعة (برلين، لندن،..)، ويؤثر على الخيارات الاجتماعية المختلفة: التركي في ألمانيا لا يتزوج إلا تركية، كقاعدة عامة، واللاعب التركي الذي يحمل جنسية ألمانية لا يلعب سوى للمنتخب التركي وإلا كان مصيره الاستهجان كحالة مسعود أوزيل على سبيل المثال.

من اللافت أن الأجيال الثانية أو الثالثة من المهاجرين تمتلك هوية مزدوجة، فرنسيون جزائريون أو هنديون بريطانيون على سبيل المثال، من دون أن تلغي واحدة منهما الأخرى، وفيما يراها أصحابها نوعاً من الفردية والتميز في إطار المجتمع الحاضن لشتى الثقافات، يراها آخرون نوعاً من الخطر للهوية الأصلية في المجتمع المضيف. ويشير التقرير هنا إلى أن جميع الناس يتشاطرون الخوف من الهويات الجديدة من دون التعبير عنها لأن أحداً لا يحب التغيير في الحقيقة، باستثناء الجماعات المرتبطة بأقصى اليمين أو الأفراد الواقعين تحت ضغوط اقتصادية تغذيها الفروقات بين الأغنياء والفقراء، كما هو الحال في ألمانيا الشرقية مقارنة بألمانيا الغربية.

والحال أن الجدل حول الهجرة ليس مسألة طارئة أو محصورة في دول محددة مثل ألمانيا التي باتت الأكثر استقبالاً للاجئين في أوروبا منذ العام 2015، بل هي مسألة قديمة من الممتع تتبعها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتحول ألمانيا من دولة شديدة الانغلاق والعنصرية للعرق الآري - الجيرماني، إلى "دولة مهاجرين" كما تصفها المستشارة أنجيلا ميركل، أو "دولة مهاجرين في حالة إنكار" على الأقل، كما يصفها مارتن لاوتباك، الذي يدير إحدى برامج اندماج اللاجئين في "المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين"، مع مقارنة البلاد بالولايات المتحدة التي قامت أساساً على المهاجرين الأوروبيين وغيرهم ضمن مفهوم بوتقة الانصهار وفلسفة انهيار القوميات.

ورغم طغيان الجانب الإنساني على النقاش في وسائل الإعلام والسوشيال ميديا، يبقى الجانب الاقتصادي هو المحرك الأساسي لقرارات الدول القومية استقبال اللاجئين من عدمه، ولا تشكل حالة ألمانيا التي يركز عليها التقرير بوصفها "صاحبة أكثر المشاهد إثارة للاهتمام في مسرح الدراما العالمية"، استثناءً، بالنظر إلى معدل الولادات المنخفض في البلاد أولاً رغم الأداء الاقتصادي المرتفع، ولا يمكن تلمس الأثر الاقتصادي في التو واللحظة بل هو مخطط بعيد الأمد ستظهر نتائجه بعد حصول أطفال المهاجرين الحاليين على التعليم بما سيمنع اقتصاد البلاد من الركود بحلول العام 2050.

وهكذا تلتزم المجلة بدورها الدقيق في طرح كافة الأفكار على قدم المساواة كمنصة للنقاش الضروري على المستويين الفردي والجمعي، وتشكل المعلومات فيها البطولة على حساب المواقف الإنسانية الطوباوية التي تتكرر في الإعلام العالمي المرحب باللاجئين، مع توازن في التصريحات المأخوذة من كبار الساسة الأوروبيين والألمان، وهامش كبير للجانب الاجتماعي الشخصي الأكثر حساسية، ما يجعل التقرير قصصياً ممتعاً في العديد من أجزائه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها