السبت 2016/09/10

آخر تحديث: 15:22 (بيروت)

صراخ "فلوجستا"

السبت 2016/09/10
صراخ "فلوجستا"
increase حجم الخط decrease
"لا تقلق يا بيب... نحن نلعب بشكل جيد ونستمتع في التدريبات، وسوف نحقق النجاح".
بهذه العبارة صرخَ أندريس إنييستا، قائد نادي برشلونة والمنتخب الإسباني لكرة القدم، في وجه مدرّبه وزميله السابق "بيب غوارديولا" في بداية مشواره التدريبي مع نادي العاصمة الكاتلونية، محاولاً رفع معنوياته. هذا حسب ما ذكره إنييستا نفسه في فصل من فصول كتابه الصادر أخيراً في إسبانيا.

وبالعودة إلى العبارة، فإنها، إذا ما استثنينا الجملة التي تقول إن اللاعبين "يستمتعون في التدريبات"، تبدو خاليةً من أي دلالات عميقة فكرياً أو حتى لغوياً. ما يجعلُ سؤالنا عن سبب تأثيرها في مسيرة المدرِّب الشاب لاحقاً، سؤالاً مشروعاً. وقد يبدو منطقياً التفكير حِينَئِذٍ، بأن سحريتها في الصراخ، وتوقيت الصراخ.

الصراخُ الذي هُوَ فعلُ إخراجِ الصوتِ من الفم بشكل أكثر عُلُوًّا وحدةً وغضباً، هو واحد من تلك الأفعال الكثيرة، التي تبدو ممارستُها في بلداننا ضرباً من ضروب الجنون.

سبب هذا الحديث الآن، أنني ارتطمت بجملة الكابتن الإسبانيّ، بينما أنا غارق منذ الصباح في البحث في أرشيف إحدى التقاليد المتّبعة في قرية فلوجستا، التابعة لمدينة أوبسالا، شمال العاصمة السويدية ستوكهولم. والتي يشكّلُ طلّاب جامعة أوبسالا، التي تعتبرُ بدورها واحدةً من أعرق وأفضل سبعين جامعة على مستوى العالم، يشكَلون أكثرية سكّانها. حتى أن القرية تُعتبر السكن الجامعي لطلاب الجامعة. وتقليد «Flogstavrålet» (هدير فلوجستا) هو أن سكان المنطقة، إذا ما سمِعوا صرخةً عند الحادية عشرة ليلاً، قادمةً من أي شباك من شبابيك المدينة، فإنهم يفتحون شبابيكهم ويردّون الصرخة صرخاتٍ عالية مريعة تخلخل سكون القرية الموحش في ليل هذه البلاد الثلجية. حتى أن سامع الصرخات يمكن أن يشعر أنه وسط غابةٍ ذئبيةٍ من غابات السويد الكثيرة.


وأما سبب اتباع تقليدٍ كهذا، فإنّ إحدى المرويات التي قيلت لي: إِنَّهُ وفي سبعينيات القرن الماضي، كان من بين طلاب الجامعة شاب مثليّ الجنس، يسكن في فلوجستا، ولم تكن المثليةُ قد أخذت مكانتها كسلوكٍ حرٍّ في المجتمع السويديّ آنذاك. على ذلك فقد كان الشاب يتعرض للمضايقة النفسية من جرّاء مثليّته، إلى أن وُجِد يوماً ما جثةً ملقاة على الشارع بعد أن رمى بنفسه منتحراً من غرفته التي تقع في طابقٍ عالٍ لأحد المباني. وقيل إن تقدير التحقيقات يقول إن الانتحار قد حدث في الحادية عشرة ليلاً. وإن الشاب كان يعاني من اضطرابٍ نفسيٍّ شديد ولم ينتبه زملاؤه وأصدقاؤه له.

وعليه فقد قرر السكانُ اتباع تقليد ردّ الصرخة بصرخاتٍ في هذا الموعد بالضبط، تعبيراً منهم عن دعمهم لمن يصرخ، ومؤازرته، وإشعاره أن الكلّ مشترك معه في همه.

كنت أبحث في أرشيف هذه الحادثة التي، ورغم أنّ المرويّة السابقة في سببها تخلو من أي مرجعيةٍ دلالية تؤكدها، إلا أنها كانت أول ما خطر في بالي قبل نحو أسبوعٍ عند سماع خبر انتحار الصبية نورهان حمود ذات العشرين عاماً، في بيروت نهاية الشهر الماضي، والتي جاءت بعد انتحار الفنان الراقص السوري حسن رابح، في المدينة ذاتها، بحوالي شهرين. وتوسطهما انتحارُ شابٍ يعمل في التصوير من مدينة السويداء اسْمُهُ غالب فليحان؛ وعمره تسعة عشر عاماً.

فما الذي يدفع عشرينياً للإنتحار؟
أميلُ للإعتقاد أن أكثر ما كان يحتاجه هؤلاء الشباب هو صرخات مؤازرة تجيء من الشبابيك المجاورة! ليس أكثر من ذلك. وقد عزز "هدير فلوجستا" هذا الاعتقاد بالتأكيد.

الشباب الذين ينتحرون، يؤكدون أكثر من أي وقت مضى أن منطقتنا، ونحن معها، أمام استحقاق لا يُمكنُ تجنُّبه، في إطار الهدم المعرفيّ والسلوكيّ الذي تفترض تضحيات الناس في الثورات العربية أننا سنقيمه لأنفسنا، إكرامًا لهذه التضحيات. استحقاق إحلال قواعد جديدة ناظمة للسلوك البشريّ. من بينِها أن نفهم جيدًا أن الصراخَ الذي كان يُعدُّ فعلًا "جنونياً" في مضى؛ بات اليوم واحدًا من الأفعال الضرورية علاجيًا حتى! ليتجنب المرء رؤيةَ جيلٍ صغيرٍ وقادر على خلق الاختلاف، صريعاً لرغبة الانتحار وإيقاف الحياة في هذا العمر المبكر. 

الانتحار الذي يُمكنُ أن يعتبر حقًا من حقوق الإنسان، يُمكنُ أن يُرى، أيضاً، أنهُ تعبيرُ رفضٍ احتجاجيٌّ لدى الفرد على فقدانه بقية حقوقه. إنه اليأسُ لا من الحياة، بل من إمكانية وجودِ أناسٍ ينتبهونَ لهذه الصرخات المتقطعة، فيردّونها ويشدّونَ أزرَ مُطلقِها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها