الجمعة 2016/08/26

آخر تحديث: 14:38 (بيروت)

تعليقات العرب: قتل النقاش

الجمعة 2016/08/26
تعليقات العرب: قتل النقاش
increase حجم الخط decrease
كنت في الصف الأول إعدادي، عندما أرسلت خطاباً للكاتب، أنيس منصور، على بريد جريدة "الأهرام". ربما أخجل من الإقرار بهذا اليوم، لكنني كنت مغرماً به حينها. وما شجعني على مراسلته هو أن منصور قد كان ينشر أحياناً خطابات من قرائه أو فقرات منها، يشكرونه فيها على كتاباته التي شجعتهم على الهجرة مثلاً، وأشياء أخرى. 

ظللتُ بعدها، لشهور، متابعاً لعموده اليومي في الصفحة الأخيرة في "الأهرام"، على أمل أن يشير لرسالتي، وهو الأمر الذي لم يحدث أبداً للأسف. لم يكن منصور وحده الذي يشير في كتاباته للمراسلات التي ترده، فغيره من كتاب الأعمدة كانوا يحرصون على تفاعل القراء معهم، بالإضافة الى زاويا ثابتة خصصتها صحف مصرية كثيرة للشكاوى والتظلمات التي كان يرسلها الجمهور، وزاويا أخرى للرد على أسئلتهم واستفساراتهم، وأحياناً نشر مساهمتهم من أعمال أدبية وفنية غيرها. وخصصت صحف، ركناً ثابتاً لبريد القراء أيضاً، كان أشهرها على الإطلاق، "بريد الجمعة" في جريدة "الأهرام". 

جاءت تكنولوجيا النشر الالكتروني، لتفتح أفقاً جديداً وغير محدود، لفكرة تفاعل الجمهور القديمة قدم الصحافة الورقية، محملة بوعود بوسيط أكثر ديموقراطية وانفتاحاً يمكن للجميع الولوج إليه وبشكل فوري، ومبشرة بساحة لحوار مباشر بين الكاتب والقراء، والأهم بين القراء بعضهم مع بعض. تنافست الصحافة المكتوبة في إتاحة خاصية التعليق للقراء على مواقعها الإلكترونية، رغبة في تحقيق جماهيرية أكبر، واجتذاب جدل حول مواضيعها بهدف توسيع انتشارها. 

كان لظهور شبكات التواصل الإجتماعي خطوة أخرى نحو تعقيد عملية مشاركة الجمهور في التعليق والترويج  للمواد المنشورة، موزعة على شبكات خارج سيطرة الجهات الناشرة. لكن ذلك الواقع الجديد، كان شديد الكثافة والتعقيد، ويتطلب إمكانات بشرية وتقنية ومالية هائلة لضبطه وترويضه. 

في نهاية العام 2014 أغلقت سبع مؤسسات صحافية غربية كبرى، ومن بينها وكالة "رويترز"،  خاصية التعليق على مواقعها الإلكترونية أو على بعض من أقسامها. وفي العام التالي، انضمت مؤسسات إعلامية أكثر، أو عدّلت قواعد التعليقات، بتشديد إشتراطاتها، أو بحيث تصبح ممكنة فقط عبر حسابات الأفراد في شبكات التواصل الإجتماعي، حتى تجبر المعلقين على الكشف عن هوياتهم، فيما ذهب بعض المؤسسات لإخضاع كافة التعليقات لرقابة مسبقة بحيث يجب على فريق من المدققين قراءة التعليقات قبل نشرها، واكتفى البعض الآخر برقابة تالية على محتوى التعليقات، وحذف غير المناسب منها لاحقاً. واتجهت مؤسسات كثيرة إلى تشجيع القراء على المشاركة في عملية الرقابة تلك، بإضافة خاصية تسمح للقراء بالتبليغ عن التعليقات المتجاوزة وغير الملتزمة باشتراطات التعليق.

في ابريل/نيسان، من العام الجاري، نشرت جريدة "الغارديان"، تقريرا بعنوان: "الجانب المظلم لتعليقات القراء"، يقدم تلخيصاً لبحث، هو الأضخم من نوعه، قام بتحليل محتوي 70 مليون تعليق، هي كل تعليقات قراء الجريدة في موقعها الالكتروني خللا السنوات العشر الماضية. وبالرغم من أن الجريدة قامت بحذف 2 في المئة من التعليقات فقط خلال تلك الفترة، إلا أن تلك النسبة المتواضعة تمثل 1.4 مليون تعليق، كان الكثير منها يحمل تهجماً شخصياً على الكاتب أو القراء الآخرين، أو يتضمن لغة تمييزية أو عنصرية أو عبارات حاضة على الكراهية، وفي أحيان أخرى حذفت الجريدة التعليقات كونها منشورات دعائية تجارية، أو لأن محتواها عديم الصلة بالموضوع المنشور. 

توصل التقرير إلى أن الكاتبات من النساء، أو من الأقليات الأثنية والدينية، هن/هم الأكثر تعرضاً للهجوم، وأن الموضوعات المتعلقة بالمهاجرين وحقوق المرأة والإسلام والمثليين هي الأكثر إجتذاباً لتلك الهجمات (وهي الموضوعات التي عطلت الجريدة خاصية تعليق القراء على موضوعاتها في أحيان كثيرة). أشار التقرير أيضا الى تأثير تلك الهجمات في الكتّاب الذين لا يتعرضون فقط لتلك التعليقات المسيئة في موقع الجريدة، بل أحياناً كثيرة تتبعها حملات للكراهية والتهديد عبر شبكات التواصل الإجتماعي، غير تأثيرها في القراء الآخرين الذين يمتنع الكثير منهم عن المشاركة في التعليقات، لعدم جدوى النقاش أو انتفائه بالكامل. 

على حد علمي، لم يتم تناول موضوع تعليقات القراء في الصحافة العربية الإلكترونية بشكل بحثي ومنهجي، حتى الآن. لكن المتابعة اليومية كفيلة باستخلاص الكثير من النتائج الأولية.

منذ بضعة شهور توقف صديق مصري، مقيم في لندن، عن النشر في جريدة مصرية خاصة واسعة الانتشار، بعدما اجتذبت واحدة من مقالاته المنتقدة للنظام، بشكل أكثر من المعتاد، مئات التعليقات الغاضبة. وفي الأسابيع التالية استمرت الحملة الهجومية بالرغم من تعمده تناول مواضيع اقليمية أو دولية لا تمس النظام المصري من بعيد أو قريب. 

الأمر الملفت هو تطابق ملاحظات صديقي وآخرين مع مشاهداتي حول خصائص تلك التعليقات. فمع تتابع الهجمات في موجات، تبدو منظمة، كل بضع ساعات، تتشابه تلك التعليقات في نصوصها إلى حد التطابق، والتي يتم أحياناً بذل مجهود متواضع في تغيير ترتيب كلماتها أو اضافة كلمة أو اثنتين إلى جملها، والتي تدل في معظم الأحيان على أن كتّابها لم يقرأوا المادة التي يعلقون عليها. 

وكذلك فإن تيمات تلك التعليقات تبدو منسقة، ويتم استخدامها بشكل تصاعدي. فيبدأ الأمر بالهجوم على الموقف السياسي للكاتب، ونعته بالعمالة والخيانة والتمويل الأجنبي وغيرها، ثم ينتقل الأمر للإهانة الشخصية والسباب، وبعد ذلك استخدام ألفاظ نابية تخصّ الأم أو كلا الوالدين، وينتقل الأمر للتهديد بالأذى الجسدي أو السجن أو القتل أو توقعها، أولاً للكاتب ولاحقاً لأسرته، وفي أحيان كثيرة تتم السخرية من هيئة الكاتب إن كانت صورته منشورة مع المقال، وأخيراً فإن سلاح الاتهام بالمثلية الجنسية يبدو الملاذ الأخير لو كان الكاتب ذكراً، أما لو كانت إمراة فإن رميها بالقبح أو التهتك الجنسي هو الأمر الأكثر تكراراً. 

وبالرغم من أن التهديدات التي يتم توجيهها بأذى الأهل، وخصوصاً إن أضيفت لها تلميحات لمحل إقامتهم، هي الأكثر إثارة لإضطراب الكتاب، بالإضافة لتيمة أخرى وهي السخرية من هيئة الكاتب وصورته، وإن كانت تبدو مضحكة، لكنها تنمّ عن فهم سيكولوجي لتأثير تكرارها الكثيف من قبل مروجيها.. لكن معظم الكتّاب يتجاهل تلك الهجمات، أو يحولها الى موضوع للتندر، أو ينسبها إلى عمل "اللجان الالكترونية". 

في المرحلة التي شهدت تلميع صورة جمال مبارك، وتهيئة الرأي العام لخلافة لوالده، ظهر توصيف "اللجان الالكترونية" للإشارة الى حملة منهجية في الفضاء الإلكتروني تقوم عليها مجموعات منظمة للترويج للجنة السياسات والهجوم على خصومها. وبالرغم من أن تلك التقنية متبعة بشكل واسع للترويج التجاري، والدعاية السياسية وغيرها، على نطاق عالمي، إلا أن العمل المنسوب للجان الإلكترونية أخذ منحى شديد القتامة في مصر بعد الثورة، وكان المتهم الرئيسي هو "اللجان الإخوانية" التي هاجمت وبشراسة خصومها، وكان شعارها الدائم والذي كان يمكن قراءته بضع مئات من المرات في اليوم الواحد: "موتوا بغيظكم". أما بعد الثلاثين من يونيو، فإن لجان النظام نسب لها الاستئثار بحملات الهجوم والتهديدات الكثيفة التي تعرض لها الكتّاب من معارضي النظام. 

إلا أنه سيكون من باب المبالغة والإختزال أن تتم نسبة كل التعليقات أو حتى معظمها إلى اللجان الإلكترونية. ثمة قدر معتبر من تلك التعليقات هو انعكاس طبيعي للإحتقان السياسي الشديد في مصر، وتجلٍّ للمعادلة الصفرية لإنقسام المجتمع والتي تم ترجمتها في مذابح جماعية في الشوارع والميادين. 

لكن في الوقت ذاته، يمكن الإدعاء بأن تلك اللجان الإلكترونية تقود تلك الحملات وتتحكم بها عبر وسائل منهجية بسيطة، تستهدف تكوين رأي عام موالٍ على الفضاء الإلكتروني، وكذلك تشويه خصومها ومنتقديها، والأهم تخريب إمكانية الحوار عمداً بين الأفراد والأطراف الراغبة فيه.  

أطلق الكاتب البريطاني، ستيفن بتشارد، مصطلح "عصر الغضب" في إطار تحليله لظاهرة تعليقات القراء، وهو المصطلح الذي لا يبدو كافياً لتوصيف الحالة المصرية أو العربية. فعصر الحروب الأهلية والصراع الطائفي والديكتاتوريات العائدة والثورات المنكسرة، يبدو أخف تجلياته ضررا هو تعليقات القراء المحملة بالكراهية، لكن الأمر الداعي للحسرة، هو أن تلك الوعود البراقة والمبشرة التي حملتها تكنولوجيا تفاعل القراء مع النشر الإلكتروني، لم يتم فقط تبديدها عمداً، بل تحولت لمنصة لقتل النقاش العام.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها