الإثنين 2016/08/22

آخر تحديث: 15:52 (بيروت)

"صوفيا": روبوت قايين ونيتشه.. بلا مرآة لاكان

الإثنين 2016/08/22
"صوفيا": روبوت قايين ونيتشه.. بلا مرآة لاكان
تتوتر تلك العلاقة الكثيفة بين الإنسان المعاصر، باستلابه، والروبوت بوصفه حداً أقصى للـ"أنا- الآخر"
increase حجم الخط decrease
"هل تستطيع أن تُغرَم بتلك الروبوت الآندرويد(*) ذات العينين المجنونتين التي تريد تدمير الجنس البشري؟".. بتلك الكلمات، اختار الموقع الشبكي لتلفزيون "سي أن بي سي" أن يقدّم لشريط الفيديو عن تقديم شركة "هانسون روبوتكس" Hanson Robotics قبل أيام قليلة، للروبوت- الآندرويد ذي الوجه النسائي،"صوفيا". وأوصلت "صوفيا"، المؤتمر الصحافي الذي أقامه هانسون، مؤسس الشركة التي صنعت "صوفيا"، إلى نهاية "لم تكن متوقّعة"، وفق وصف "سي أن بي سي". إذ مازح هانسون صنيعته الروبوت "صوفيا" بسؤال "هل تريدين تدمير البشر"؟ مردفاً "أرجوك، قولي لا"، لكنها أجابت: "حسناً. سأدمّر البشر" OK. I’ll destroy humans". ربما، تذكر تلك العبارة ذات يوم باعتبارها حجر علامة في مسار العلاقة المتشابكة بين الإنسان والروبوت، خصوصاً مع تحدي الوقوع في غرام "آندرويد" تريد تدمير الإنسانيّة.

وفي روايته "الإنسان وروبوت الآندرويد"، أورد الكاتب الأميركي فيليب دايك (1928- 1982) الوصف التالي وهو محمّل بسخرية مرّة: "ربما سيأتي يوم يطلق فيه كائن بشري النار على روبوت صُنِعَ توّاً في مصانع شركة جنرال إلكتريك. ويرى بدهشة كبيرة أنه [= الروبوت] ينزف دماً ودموعاً. ويمكن للروبوت المحتضِر أن يطلق النار على الإنسان، ويشاهد بدهشة أكبر غمامة صغيرة من دخان رمادي ترتفع من المضخة الكهربائيّة التي كانت تعمل بديلاً للقلب النابض للإنسان. وستكون تلك لحظة الحقيقة الكبرى للإثنين".

قد لا يكون دايك مشهوراً في العالم العربي، لكنه ليس غريباً تماماً عن جمهور الشباب من هواة أفلام الخيال العلمي الهوليووديّة. فروايته صوّرت في أفلام شهيرة مثل "تقرير الأقلية" Minority Report (طوم كروز- 2002)  و"تذكّر شامل" Total Recall (أرنولد شوارزنيغر- 1990) و"مكتب التأقلم" Adjustment Bureau (مات ديمون- 2011) وغيرها. وتدور معظم أعمال دايك حول فكرة مستقبل يتمازج فيه مصيرا البشر والروبوت (بل مجمل التكنولوجيا والتطوّر العلمي)، ضمن رؤية تميل إلى التشاؤم حيال ذلك التمازج. في مطلع القرن الجاري، حاول الفيلسوف الأميركي الشهير فرانسيس فوكوياما تطوير ذلك النسيج، خصوصاً في كتابه "مستقبلنا ما بعد الإنساني" Our Posthuman Future (2002)، لكن فوكوياما لم يستطع السير كثيراً أبعد مما فعل دايك.

لماذا تذكّر دايك؟ ربما لأنّه من الممكن التعمّق في شريط فيديو "صوفيا"، انطلاقاً من روايته "الراكض على الشفرة" Blade Runner التي حوّلتها هوليوود فيلماً بالعنوان عينه (هاريسون فورد- 1982). في الفيلم تنسج علاقة حب بين إنسان وامرأة روبوت شبيه بالإنسان، لكنه مكلّف أصلاً بتدمير روبوتات! بداية من ذلك المأزق الوجودي العاطفي، رسم دايك أفقاً متشائماً تماماً عن مصير البشر في مستقبل تتحكم فيه سلطة طاغية، يكون محور قوّتها هو التقدّم العلمي والتكنولوجي، خصوصاً الكومبيوتر والروبوت وكل ما يحلّ بديلاً للبشر وإراداتهم في الحضارة التي بناها البشر بأنفسهم.

الروبوت "جسداً- ذاتاً- آخر" لما بعد الحداثة
ورد اقتباس دايك عن المعركة الأخيرة بين الإنسان والروبوت، في كتاب عالِم الاجتماع الفرنسي المعاصر ديفيد لوبريتون "أنثروبولوجيا الجسد والحداثة" (1990). واستناداً إلى المقاربة التي عرضها لوبريتون عن تطوّر العلاقة بين الإنسان والحضارة والجسد، يمكن الاستطراد للقول بأن الروبوت صار أقرب إلى نسخة ما بعد الحداثة من علاقة الإنسان مع جسده. لم يعد الإنسان يكتفي بتطوير علاقته مع جسده عبر علاقات حضارية واجتماعيّة متنوّعة، وصولاً إلى علاقة حداثيّة فائق السطوة في فرض استلاب متبادل على طرفي العلاقة بمعنى جعل الجسد هو "الآخر" للفرد المعاصر. مع الروبوت، بدا الإنسان كأنه يعيد دمج الجسد مع الذات (ربما مع اختزالها بالذكاء أو شيء منه)، لكنه يعمد إلى تغريب/استلاب ذلك الاندماج بصورة قاسية، بأن يجعله "آخر" إلى الحدّ الأقصى، فيكون الروبوت هو "الآخر- المتكامل- التغريبي" للإنسان المعاصر الذي هو في نقطة الإنفصال/الاستلاب بين ذاته و/أو هويّته من جهة، وجسده المصادر لمصلحة الحداثة ومجتمعاتها وعلاقاتها وقواها ومصالحها من جهة ثانية. بذلك، تتوتر بشدّة تلك العلاقة الكثيفة بين الإنسان المعاصر باستلابه، والروبوت بوصفه حداً أقصى للـ"أنا- الآخر". أليست التجربة الإنسانيّة الحضارية في علاقة الـ"أنا- الذات" مع "الآخر" مؤلمة تماماً، مع التفكير في رينيه ديكارت وإيمانويل لفيناس سويّة أيضاً؟

عندما نشبت الحرب العالمية الأولى، قيل أنها مذبحة لمعنى الـ"كوجيتو" الديكارتي، ونهاية إنسان عقل الحداثة الذي انطلقت غرائزه التدميريّة على نحو مقيت. وارتفع صوت سيغموند فرويد، خصوصاً في كتابي "قلق في الحضارة" و"مستقبل وهم"، ليشير إلى احباط ضخم بشأن تطوّر الكائن البشري. وفي صدمته أمام مقتل 20 مليون بشري على نحو لم تعرفه حضارة الإنسان، استعاد فرويد الجريمة الأولى: مقتل هابيل على يد قايين، ليشير إلى انغراس الميل إلى التدمير وقتل "الآخر" في الكائن الإنساني. ربما لم تفعل "صوفيا" سوى أنها نطقت بصوت روبوت- آندرويد ووجه أنثوي، بما فعله قايين.

في تطوّر المدرسة الفرويديّة، ظهر رأي عن القتل والعنف على يد المفكر الفرنسي جاك لاكان (1901- 1981)، وهو عاصر أيضاً المذبحة المذهلة للحرب العالميّة الثانية بما فيها الإفناء الذري. الرأي عن القتل، يستند إلى نظريته "دور المرآة" في تطوّر الإنسان. من المستطاع اختزال رأي لاكان بأن تعرّف الطفل على نفسه يستهل معرفته بالذات وتمييزها عن الآخر. ويترافق ذلك مع تصاعد رغبة في ممارسة عنف على "الآخر" الذي كان قبل ذلك، جزءاً من الذات، فلا يسترد "ذاته" تماماً وكليّاً إلا بفناء "الآخر"! وبالنظر إلى كلمات "صوفيا" من منظار لاكان، يبدو أنها وصلت إلى صراع وجودي كامل (إفناء الآخر البشري)، ولم تكن "مرآتها" سوى ذكاء الإنسان المنقول إليها اصطناعيّاً.

عودة إلى نيتشه
قبيل شريط فيديو "صوفيا"، نشر "معهد ماساشوستس للتقنية" أحد مشاريعه في المعلوماتيّة، وهو يحمل إسم "كونسبت نت" ConceptNet. وأجرى المشروع اختباراً في الذكاء لمجموعات من البشر والروبوت. وتبيّن أن الروبوت صار بمستوى ذكاء طفل بشري صغير بعمر 4 سنوات.

بقول آخر، مهما كان الرأي في "عقل و/أو وعي" الروبوت "صوفيا" (هل هو منقول إليها عبر معادلات رياضيات الكومبيوتر أم أنها تفكّر باستقلاليّة نسبيّة؟)، فهي ما زالت طفلة بعمر 4 سنوات. ويرد ذلك المعطى إلى مرآة لاكان في ذلك، مع ثنية معيّنة: في ذلك العمر يعتبر الطفل أن من يضربه هو نفسه، ولا يميز بين الآخر ونفسه. إذا صدق لاكان، يكون تهديد صوفيا مرتداً عليها أيضاً! إذا دمّرت "صوفيا" البشر، سيبدو ذلك لعينيها كأنما هي دمّرت نفسها أيضاً. أليس ذلك صحيحاً الآن؟ إذا دمّر الروبوت البشر، يكون كأنه يدمّر نفسه أيضاً، لأن البشر هم صُنّاعه.

في الميثولوجيا الدينيّة، الإنسان صانع الروبوت و"إلهه" مجازاً. فيكون التدمير "المتبادل" تحقيقاً لكابوس ميثولوجي عجائبي، في معنى يعرفه فلاسفة من نوع الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، القائل بموت الآلهة بل قتلها. في ذائقة نيتشه ومدارس فلسفية تشمل فرويد، يكون "الخالق" فكرة كبرى صنعها الانسان في مواجهة استعصاءاته الوجوديّة، خصوصاً الموت. في الدمار المتبادل، يصل ذلك التحليل إلى أقصاه: تبادل الدمار بين الخالق والمخلوق (أياً كان موقع الإنسان من طرفي هذه المعادلة). هل كانت "صوفيا" نيتشويّة تماماً في رغبتها في تدمير خالقيها وإلهتها؟

ماذا عن القوانين التي تضبط الروبوت وصناعته؟ ماذا عن نبوءات علماء كومبيوتر بشأن الدمار الذي يحمله تقدّمها والعلوم التي تساندها، للحضارة البشرية؟ لماذا وُصِفَت عينا "صوفيا" بأنهما "مجنونتان"، وما موقع الجنون القاتل في اللحظة الحاضرة؟ ماذا عن تحليل إريك فروم بشأن ضرورة الفناء المتبادل بين البيولوجي والمصنوع من جماد؟ 


(*) يطلق اختصاصيّو الروبوت تعبير "آندرويد" Android على الروبوت الذي يصنع ليكون شبيهاً للبشر ومحاكياً لهم. وبعد صارت كلمة "آندرويد" شائعة في الإشارة إلى نظام في الخليوي، صارت الكلمة ملتبسة، لذا توجّب إضافة كلمة روبوت قبلها، على سبيل التوضيح.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها