المشهد هنا أجساد متراصة، المقابض متشابكة بعروق منتفخة بالدم. يشابه الجمع سلسلة حاشية، لا يفكّ لحامها دقّ من هنا أو هناك. للدبكة قواعد. الأشهر منها لبنانياً هي الهوارة، وللإفراط في المنطق الذكوري، لا بد من "تذكير" الإسم، والإستعاضة عن التاء المربوطة، بالياء الذكورية، والاكتفاء براء التهوّر. ولتنجح الدبكة، تحتاج إلى الحمّية، هي التي يشتهر بها أهل البقاع.
ما بين الهواري، والحميّة، كمنت الدبكة اللبنانية. في يوم واحد عمّت حالة الجنون والتلاشي الراقص على الجثث، المناطق اللبنانية كافة. انشغل لبنان بحسين هواري، ومعروف حمية، كلاهما ترأس الحاشية، تمايلا على شاشات التلفزة، وتراقصا على جثث فرائسهما. هو الجنون الأعمّ. تتجلّى الفرائض النفسية والشخصية لأصحابه، في حالة الفرح والإنكار.
راقصت أنغام الهواري الجميع، ودفعت بهم الحميّة إلى هذا العرس الجنوني. الأعراس في الشرق هي للأموات، أو لحالات القتل والإنتقام. الكلّ شارك من موقعه، منهم من تراقص قلبه فزعاً، وآخر تراقصت عيناه بتسمّرها أمام الشاشات للمشاهدة والإستماع لمن يشعر بالنشوة والإستمتاع. حميّة، يخطف ربيع شاب، يرميه فوق قبر ولده، لا أحد يملك إجابة القبر أو من فيه، حول ما جرى. لربما تساءل عن ذنبه لإلقاء هذه الجريمة فوقه. قد يكون المغدور محمد حمية، قد قتل ثانية، والقاتل غالباً ما يلجأ في ما بعد إلى موقع إقتراف جريمته.
يلاقي الهواري حميّة في مسعاه، يقف على رأس الحاشية من الجهة المقابلة، يطلب من بعض أترابه تصويره، فالدبكة تحتاج إلى حماسة، ولا شيء يضخّها كما يفعل الرصاص. يشهر هواري سلاحه، راجلاً أم راكباً لا يعنيه الامر. ما يعنيه فقط، إطلاق النار، إثبات الرجولة، إشباع الحاجة إلى الصمم بأصوات الطلقات. لا مجال للمصادفة هنا، من يتباهى بما يفعل، لا تعنيه نتائج فعله، سواء قتل أم أضرّ. العفوية معدومة هنا، وكذلك الهفوة، ما اقترفه الهواري يوازي تماماً ما فعله حمية، هي حركات ميكانيكية بديهية، تماماً كما يفعل الدبيكة بنقل الحركات ما بين اليدين والرجلين، من دون فقدان الإيقاع والمعنى.
المعنى واضح، حلقة دبكة ترأسها معروف حمية وحسين هواري، على جثث لبنان، بشعبه، واجهزته وقضائه. لم يتوارَ أي منهما. الأول ظهر ببزته العسكرية متقبلاً التبريكات، والآخر عاد إلى ساحة وغاه في سوريا. هي الحاجة الدائمة إلى الصراع، إلى العدو، هو منطلق افتقاد أي معنى للحياة، أو وجود أسس لها.
نشوة الإنتصار بالدم، والأخذ بالثأر، تنجم عن الشعور بفائض القوة، وغالباً ما تستشري هذه الحالة في مجتمعات لم يعد للقيمة الإنسانية أي مكان فيها. الحياة فيها لا تُرى فيها إلى من فوهات البنادق، وبذلك تتحول إلى حالة تجسيد للموت المتنقّل. هو مشهد المجتمع حين يسير في جنازته منتصراً، هكذا كانت صورة الوفود المباركة بعملية القتل.
في الحالات السلمية ما بعد الحرب، ينقضّ الإنسان المحارب على نفسه، وتتحول شراهة القتل إلى نمط حياة تعويضي، لذلك يبدو الشفاء صعباً ومستحيلاً، لأنها تبقى حية داخل كل واحد منّا.
دبكة حمية الهواري، لاقتها دبكة أخرى، إحتفاء الوزير "الرفيق" غازي العريضي بعرس نجله. الدبكتان قاتلتان، الأولى للأسباب المذكورة، الثانية لأنها دبكة فرح قاتل، قاتل للإشتراكية ومضامينها، وللإنسانية وفقرها المدقع في لبنان. وما بين الدبكتين، تبقى أفراح الإنتصارات والثارات في ديارنا عامرة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها