السبت 2016/12/10

آخر تحديث: 10:51 (بيروت)

بين الأرزة والصرماية

السبت 2016/12/10
بين الأرزة والصرماية
سلطة "البوليس" على الرأي تتعارض حكماً مع صورة لبنان كبلد يفترض أن فيه بقية من ديموقراطية (ريشار سمور)
increase حجم الخط decrease
أتفه ما وصل إليه الانتقاد في لبنان، والتعبير عن الاستياء، والتخاطب الاعلامي والتراشق السياسي، هو اللوذ بالـ"صرامي"، لتحقير الآخر. هي الشتيمة إذن. الشتيمة من موقع الحضيض، وليس من موقع الاتهام أو الاستدلال أو المنطق. شتيمة، دفعت الطالب باسل الأمين للتعبير عن اعتراضه على إهانة لاجئ سوري، للجوء الى "الصرماية" كوسيلة اعتراض، ولحقت به قناة "أم تي في" لردّ الخطاب المناهض لتقريرها.
هذا الدرك من التخاطب، الذي تلا مرحلة الشتيمة بخطاب "الزبالة"، يؤشر فقط الى ان الانقسام بالرأي، لم يعد ثيمة يتغنى بها اللبنانيون كوجه من وجوه الديموقراطية المزعومة. فالمساس بمسلّمات يعتنقها حاملو الرأي والرأي الآخر، هو مساس بالشخصي، يستدعي الانحدار الى مستوى التفلت من الضوابط الاخلاقية، وأدبيات التخاطب المعمول بها، في بلد التنوع وحرية الرأي. 

والواقع أن الخلاف الذي قاد الى التراشق بـ"الصرامي"، يحتاج الى هدوء، ويحتمل النقاش. فلا الأرزة اللبنانية منزهة عن النقد، ولا اللاجئ السوري البريء من مخالفة أصول الضيافة، يجب أن يتعرض، بتعميم مقيت، لحملات التشهير والرفض.. ولا رفع سقف الشتيمة بحق البلد، مكفول بموجب القانون الاخلاقي، قبل القانون الوضعي والمواد الدستورية. 

ما نشهده، حملة تشهير منسقة، بأبعاد سياسية وفئوية، لا تخفي الصراعات القديمة - والمستمرة بين وسائل إعلام محلية، يوقظها حدث، مثل استدعاء باسل الامين الى مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية، وتوقيفه بتهمة إهانة الأرزة اللبنانية. 

المبالغة في التعبير عن استنكار لبناني لإهانة لاجئ سوري، بخطاب تعميمي وتحقيري لبلد برمته، هو محل نقاش. بل ويمكن الذهاب إلى استذكار ونقد وشجب خطاب يساري/ممانع لطالما حقّر لبنان كوطن نهائي لأبنائه باعتباره "وطناً مصطنعاً" منذ نشوئه، ألّفته "قوى الاستعمار"، ولا يساوي شيئاً أمام القضايا "القومية والعربية" الكبرى، في حين أنه، في وجدان كثيرين، لا وطن غيره ممكناً.

لكن الاستنسابية في تأديب اللبناني المستنكِر، كرسالة ردعية لمواطنين لبنانيين آخرين، وفق قاعدة "المقدس" وعدم المساس بـ"رموز" البلد، هو محل انتقاد ونقاش أيضاً.. بل هو مساس بالعقل والإرادة البشرية لصالح مُنزَّهات مرعبة. تماماً كما أن المغالاة في الدفاع عن حقوق البلد وصورته، الذي يأخذ المنحى الفئوي، على قاعدة لبنانوية صرفة، هو استعادة سيئة الذكر لمراحل بالية من الذاكرة اللبنانية، وتصنيف تقسيمي لمواطنين لبنانيين، اجتمعوا في محطات كثيرة، أبرزها الدفاع عن حرية التعبير يوم اتخذت سلطة الوصاية السورية قرار إقفال منبر "أم تي في". 

البلد ليس منزهاً عن الأخطاء. كذلك انتقاده، ليس تهمة. ألم تتحرك حمية اللبنانيين للقول ان البلد ليس بلداً، حين قتل الابرياء جراء الرصاص الطائش، المستمر إطلاقه في كل مناسبة؟ هل سيكون الاعتراض العاطفي بمثابة إهانة للبلد "المثالي"؟ ألم تحمل "أم تي في" ملفات كبيرة على عاتقها تدافع عن حقوق اللبنانيين بالخدمات والطاقة؟ ألم تعلن عجز البلد عن القيام بمهامه تجاه مواطنيه، حين بادرت الى حملة "انسى جورة"؟

الاعتراف بالعجز، يوازي الشتيمة، لكن لغته ضمنية، وليست صريحة. الجميع يدرك ان النقد ليس جريمة، والمبالغة في استخدام التعابير المهينة، تستدعي ضبطها، وليس تأديب المنحدر عاطفياً اليها، والنزوع إلى حملات "الصرامي" للرد، واستدراج التأييد والرفض. فيما يشرّع التأديب، وفق هذه الطريقة، سلطة "البوليس" على الرأي، وهو ما يتعارض حكماً مع صورة لبنان كبلد يمتاز بهذه الخاصية... إن كان هناك من بقية لهذه الخاصية. 

قبل عامين، أثمرت النقاشات حول دور "مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية" ما يشبه التسوية، بأن الرأي ليس جريمة تستدعي السجن. لكن عودة التجريم، في واقعة باسل الأمين، هي رسالة سيئة للعهد، تقربه من الأنظمة البوليسية، وتبعده عن صيت لبنان كواحة للحرية، والتي حكماً يجب أن تكون محكومة بضوابط أخلاقية. فالانظمة الديموقراطية التي كرست "الهايد بارك" فعلياً، أو افتراضياً، أو عبر المنابر الاعلامية، لم تخن أوطانها، بل أبعدتها عن الانظمة الشمولية. وبالتالي، فإن "إم تي في" في حاجة إلى نقد ذاتي معمّق وعاجل لحقيقة وقوعها في هذا الابتذال وكل تلك السوقية الإعلامية في "الدفاع عن الوطن".. بل ولانتهاجها أسلوب التهديد على غرار الأجهزة الأمنية والأنظمة القمعية، إذ نشرت تقريراً عن السباب المتبادل تحت هاشتاغ #سحبولن_الجنسية! أما واقعة سجن الأمين، فتحتاج توضيحاً من العهد، منعاً للإمعان في تحقير البلد، وتشريع حوار "الصرامي".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها