الأحد 2016/12/25

آخر تحديث: 17:13 (بيروت)

فرانكشتاين حلب

الأحد 2016/12/25
increase حجم الخط decrease
هل هي محاولة من الثلج لجذب أهالي حلب الخارجين من الحصار من معاطفهم، ومنعهم من ترك بيوتهم للمجهول؟ أم أنه لا يعدو كونه شكلاً آخر من أشكال المعاناة التي تضافرت عواملها البشرية والطبيعية ضد المهجرين؟
كأنما تُصرّ تراجيديا حلب على إيقاعنا في شِراك صُورِها ثنائية المعنى والانطباع، حتى وهي تكتب خواتيم إحدى مراحلها. فالثلج الذي راح يحتفي به كثيرون، لم يكتفِ بظهوره بمظهر قاتل إضافي بارد القلب والشعور، بل أعطى مُتابعي المشهد أسباباً لتغيير مفاهيم كانت تبدو ثابتة حول نقائه وبراءة التعاطي معه.

حديث الماهية والثنائيات والأحاسيس المشوشة لم يبدأ هنا، بل منذ لحظة حلب الفارقة ليلة 13.12.2016 التي لم تقتصر على إنتاج لوحات غريبة وموجعة بما يفوق الإحتمال، بل استدعت "كائنات" لا عهد لنا بها. ففي المسافة الزمنية الفاصلة بين إعلان النظام "انتصاره" وبين إفراغ الأحياء المحاصرة من سكانها، تدفقت صور من العالم الحلبي "الآخر" مبرزةً حالات الفرح لدى مؤيدين في الأحياء الغربية، وصولاً إلى احتفالات عيد الميلاد في حي العزيزية لاحقاً. لقطات تلقفها الإعلام على عجل واستمرّ في ذلك لتسويق منتجاته البصرية القائمة على التقابل والتضاد، عارضاً نماذج عديدة. 

ومع هذه المَشاهد أصبح الباب مفتوحاً على خيارات ومواقف كانت أسيرة التحفظ أو التأجيل لدى شريحة كبيرة من السوريين حيال "الشركاء في الوطن". وبها، صارت فرص التعايش الواقعي والافتراضي تضيق بينهم. لكن هل في الإمكان اعتبار مقطع فيديو يظهِر ابتهاج الموالين حالةً لا ينبغي تعميمها؟ وعليه، فمَن يكون هؤلاء في حقيقة الأمر؟ ذئاب تعيش على آلام بقية السوريين أم حِملان تُساق إلى جبهات المعارك غصباً؟ أم مزيج من الاثنين؟

بين مجموع الصور التي تم تناقلها على نطاق واسع، مرّت واحدةٌ لم تنَلْ حقها سوى لجهة إثارة النزعات الانتقامية بين المتابعين وشتائمهم؛ امرأة بلغ الاحتفال بها مستوى لا مثيل له من الانفعال حتى بتنا وكأننا نقف أمام مخلوق جديد من مفرزات الحرب السورية. 

لا شك أن حجم الرعب يختلف بين ما قبل وما بعد تقريب صورة المرأة المحتفلة ومن ثم اقتطاعها من سياقها العام الذي أظهرها وسط مجموعة من المحتفلات الأخريات في سيارة. وربما أدت عوامل الطقس آنذاك إلى انكماش عضلات الوجه "الفرانكشتايني" حينها لتبدو على تلك الشاكلة. لكن الأكيد أن عنصر الفرح كان الأكثر تأثيراً في هذا التعبير الذي بدا كأنه أقرب لاضطرابات عُصابيّة غير مفهومة.

ست سنوات على إنطلاق الثورة السورية لا يمكن القول بعدها أنها أدت إلى تقسيمات جديدة للمجتمع السوري وحسب، بل إن حمولة كثيفة من التناقضات والانتهاكات للوعي البشري صنَعت "مخلوقات" جديدة وأدت لانقراض أخرى. وفي هذا المجال لا نستطيع تجاهل دور النظام الذي كان له باع سابقاً في تحويل الإنسان إلى كائن داجن، ووصل اليوم إلى حد صنع وحوش بشرية. 

لكن هل المسخ هنا جلاد أم ضحية؟

في الرواية الشهيرة للكاتبة البريطانية، ماري شيلي، عاش المسخ المُكوّن أساساً من الأشلاء تجربةً اجتماعية قبل أن يدرك ما هو عليه من وضع مأساوي وقُبح منفّر جاء نتيجة طموحات صانعه العالِم فيكتور فرانكشتاين. وتبلغ القصة ذروتها عندما يطلب المسخ من العالِم أن يصنع له رفيقاً شبيهاً للعيش معه بعدما أدرك استحالة الحياة مع الناس الطبيعيين. 

كما في هذه الرواية فالحالة السورية قد تحتمل الخوض في جدلية الإدانة والتعاطف مع من يُعتبرون "وحوشاً" من حيث مدى توافر الخصائص الإنسانية وطبيعة التموضعات، والمساهمة في المذبحة الكبرى أو في أي جرائم على مستوى الفعل والقول. هذا بالنسبة للتصور الأقصى والأكثر راديكالية للعلاقة بين "أبناء الوطن الواحد". أما في الواقع فهناك عناصر عديدة تحكم حياة السوريين مع بعضهم البعض خصوصاً في الشتات، تجعل الأمور أكثر نسبية وتدرُّج بين حّدي هذه العلاقة. 

وتبقى المعضلة الكبرى عند التعامل مع المؤيِّد "المُخلِص" لأي طرف، هي في رغبته التي لا تنطفىء بمَسخ الآخرين على هيئته، وتحويل المجتمع المحيط به إلى مجتمع "تشبيحي" يقوم على إقصاء أي لون مختلف. وفي هكذا بيئة لا استتثناء لأحد. فمَن يقع ضمن ما يسمى بالأغلبيات "الصامتة" أو "الرمادية"، عليه أن يُقيِم فترة طويلة في شرنقة، بانتظار أن ينتهي العالِم يوماً ما من تجاربه المخبرية لإطلاق وحوش جديدة. 

"من سيحتل البيوت ويملأ الأمكنة الفارغة"؟ يطارد السؤالُ آخِرَ قوافل المهجرين من حلب. وفيما تطوي المدينة صفحة ثورتها، يغتال بياض الثلج ألوانها، لتصبح مثلما أُريد لها، "نقية"، كما حمص ومناطق سورية أخرى لا تتسع جدرانها للعبارات المتمردة، ولا سماواتها لصرخات الحرية.   
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها