لا مجال هنا لتفنيد كل تلك الترهات التي تحوّلت، بفضل الإعلام اللبناني، إلى مادة أساسية لها موضعها ضمن الاقتصاد السياسي للمنظومة الحاكمة. لكن المُلفت في هذه المساحة أنها أصبحت حقلاً للتواطؤ على المشاهدين، ومجالاً للتجّهيل والطمس وإحالة محددات سير أمور معيوشهم إلى الغيب "العالِم" به هؤلاء.
لم تكتفِ المحطات التلفزيونية اللبنانية بتقديم تلك الزمرة المتنوعة من العارفين بأحوالنا ومصائرنا من دون علمنا، بل تذهب إلى تكريسها مصدراً للمعلومة والقيمة بغية ترجمتهما سلوكاً واتجاهاً سائداً في معيوشنا الإجتماعي. وعلى هامش هذا التصدير المشهدي، يبرز هؤلاء، ضمن المساحات الإعلامية المخصصة لهم، كونهم أصحاب الرأي والنظريات في شؤون لم تكن ضمن دائرة معارفهم.
هذا ما فعلته قناة "أل بي سي" اللبنانية عندما استضافت ماغي فرح ضمن برنامج "لهون وبس".
"لهون وبس" برنامج يدّعي الكوميديا السوداء ويبتعد عنها ليذهب باتجاه نمط سائد من برامج "الترفيه" المعدومة. برنامج يحجز لنفسه مكاناً ضمن مشهد الإبتذال القائم على النكتة العنصرية والأخرى الهوموفوبية وبعض النكات المستعارة أو المسروقة من تغريدات مستخدمي وسائل التواصل الإجتماعي.
بدأت العرّافة باستعراض أحوال الطبقة العاملة الأجنبية في لبنان، من دون أن تتوقع أي حدث هذه المرة، بيد أنها بدت تحت تأثير الكواكب في تحليلها قضية العاملات وحقوقهن، بحيث اعتبرت أن ثمة مؤامرة تحيكها الدول لخرق أمننا عبر جمعيات ممولة من الخارج وتتخذ من حقوق العاملات حجةً لذلك. وإذا كانت العاملات الأجنبيات اللواتي أسأن إلى فرح يستحققن العقاب القانوني الملائم، فهذا لا يعني ضرب حقوق كل العاملات الأجنبيات في لبنان الذي لا تاريخ مُشرّفاً له في هذا المجال.
هذا التحليل الفائض بالهِوامَات يفترض سلامة أمننا أولاً، ويعتبر حقوق العاملات حجة واهية. بدا رأي العرّافة في أبسط تعبير، عنصرياً، وفي تعبير آخر بدا مركّباً على شكل توقعاتها لجهة شحنه بأبعاد التجهيل والطمس المتعمد الممارَس على المشاهدين. وأخذت على عاتقها مهمة تبييض صورة بعض اللبنانيين الذين تم تسجيل أفعالهم الجرمية والتمييزية والعنصرية بحق العاملات الأجنبيات لدى السلطات المحلية المتخصصة ولدى الجمعيات الناشطة في مجال الدفاع عن حقوق العاملات الأجنبيات.
لم يكن كلام ماغي فرح مفاجئاً لجهة اندراجه ضمن خطاب عنصري سائد يعمل على تجريم العاملة الأجنبية ويبرّئ الرجال المتحرشين والنساء العنصريات. ما كان مفاجئاً هو تخطي التوقعات الفلكية لحساب إبداء تحليلات سياسية مبنية على نظرية المؤامرة. فمقدّم البرنامج التفت إلى هذه التحليلات واعتبرها كلاماً خطيراً مانحاً إياها "مصداقية" مبطنة.
هذا التواطؤ المتمادي بين الإعلاميين والعرّافين ليس إلا حلقة من حلقات التجهيل الممارس ضمن منظومة لا تني عن تشويه الوعي بالقضايا المختلفة ضمن خطاب مفبرك يلعب الإعلام معه دور الوسيط الفعلي بين المنظومة والناس.
الملفت أيضاً أنه في حين تشجع "إل بي سي" في نشرة أخبارها وعدد من برامجها، الخطاب البديل المناهض للعنصرية والمتبني للقضايا المحقة، تسمح لمقدم مهرّج يجمع جمهوره على النكتة العنصرية أن يستضيف عرّافة من أجل طمس تلك الحقوق نفسها بخطاب عنصري! هذا الإعلام لا يُنتج شيئاً إلا تحت وطأة الغب والطلب لسوق الإعلان، هذا إذا كنا نود تبرئته من التواطؤ مع المنظومة وخطابها السائد.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها