الخميس 2016/12/15

آخر تحديث: 16:02 (بيروت)

في "نيتفليكس": 3% من الناس يدخلون الجنة

الخميس 2016/12/15
increase حجم الخط decrease
في أول إنتاجاتها الدرامية من البرازيل "3%"، تقدم شبكة "نيتفليكس" العالمية مزيجاً من الإثارة والفلسفة والخيال العلمي، لتقديم رؤية سوادوية عن مصير البشرية وحاضرها، مستفيدة من لمسات المخرج الأروغوياني سيزار تشارلون الشهير عالمياً بأفلام أوسكارية مهمة مثل "City of God" العام 2007.


وفي ثمانية حلقات يرصد العمل قصة مشوقة تدور في المستقبل البعيد، حيث يعطى الناس خيار الخضوع لاختبار شديد الصعوبة، ينتقلون بعد النجاح فيه للحياة في "الجانب الأفضل" من العالم أو الكون، مع فلسفة بصرية موازية تتمازج مع موسيقا كئيبة لخلق تضاد عام مع الأمل بالغد الأفضل الذي يفترض أن يمثله المستقبل للإنسانية.

ينطلق العمل من فكرة الاصطفاء الطبيعي وفلسفات الإنسان المتفوق، من يمتلك صفات محددة تفيد الجنس البشري يستحق الالتحاق بالنخبة والحياة برفاهية وربما الخلود، أما البقية فهم لا يشكلون فارقاً سوى أنهم يمتصون موارد الكوكب المحدودة ويخلقون الأزمات، وهنا يقترح المسلسل أن الامتياز لا يأتي من الوراثة العائلية مثلا، بل هو صفات شخصية في الحمض النووي لكل فرد، قد يحصل عليها حتى لو كان جميع أسلافه عبر التاريخ بعيدين عن التميز، ولأن النخبوية لا تورث يتم إصابة المرشحين النهائيين بالعقم منعاً لأي مشاكل مستقبلية ولضمان المساواة، التكاثر البشري آفة يجب التخلص منها في المستقبل المتحضر.

فلسفة العمل تستند إلى كثير من الرموز الدينية والميثيولوجية التقليدية، وكأن الإنسان في المستقبل يخترع ديناً تكنولوجياً أكثر فاعلية من الأديان الغيبية، وكما استعانت الأديان التوحيدية الكبرى بالرموز الدينية من الحضارات القديمة في منطقة الشرق الأدنى، يستعين المسلسل بالرموز الدينية للديانات الحالية لتقديم طرح ديني جديد، فهناك الزوج المؤسس للمجتمع المتحضر والهارب بخطيئة ما من المجتمع القديم، وهما أشبه بآدم وحواء افتراضيين وكذلك الحال بالنسبة للصلوات التي تقام في العالم من أجل التضرع للمدينة الفاضلة أو الدعاء بالدخول إليها أو دخول الجيل الجديد إليها على أقل تقدير، تماماً كما يقيم الناس الصلوات اليوم لطلب المغفرة أو دخول الجنة بعد الموت، ، ولا وجود للرب لأن الإنسان المتفوق هو الذي يحكم على بقية البشر إن كانوا يستحقون فرصة الدخول للجنة.


القيامة التي تبشر بها الأديان أو حتى بعض النظريات العلمية عن نهاية العالم، تأخذ شكلاً مبتكراً في المسلسل، وهي قيامة شخصانية تحدث في وقت محدد عندما يصبح عمر الفرد 20 عاماً، حيث يخضع للاختبار لمعرفة إن كان سيمشي على "الصراط المستقيم" نحو الجنة أم سيسقط في الجحيم، وكلما زادت نوعية الاختبارات على المرء أن يثبت جدارته ولو تتطلب الأمر التخلي عن كثير من المبادئ الأخلاقية التقليدية، مثل حب العائلة ومساعدة الآخرين، كل شخص يجب أن يساعد نفسه ولو بالسرقة والخداع، "يجب عليك أن تثبث استحقاقك للحياة الأفضل" خلال يوم واحد فقط: "يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه".

الجميل في العمل أنه لا يخبرنا ماذا بعد الاختبار "ذا بروسيس"، بل إن الأفراد أنفسهم يقدمون تصوراتهم الشخصية عن المجتمع الذي يقاتلون للانضمام إليه، ربما هي الجنة الموعودة في السماء، أو ربما هو مجتمع تكنولوجي شديد التطور والرفاهية وربما هو مجرد مدينة كبرى مثل نيويورك أو دولة غربية مثل ألمانيا أو الولايات المتحدة، الأمر ككل أشبه بعملية هجرة منظمة من المجتمعات البدائية نحو الحضارة المادية أو الروحية، لا فرق ربما بين الحالتين، كل ما نعرفه أن المستقبل هو مدينة فاضلة لا فقر فيها ولا مرض ولا بؤس ولا تلوث.

المثير هنا أن المسلسل يحاكي الواقع الحالي نفسه، من ناحية سياسات الهجرة في الدول المستقرة والمتحضرة وانقسام العالم بشكل واضح إلى حضارات متنازعة، وتأخذ الحضارة الغربية هنا دور الحضارة الأكثر تفوقاً التي يرغب الأفراد المنحدرون من حضارات أخرى بالرحيل إليها، وإن لم يبلغ الأمر بعد مرحلة الصفاء والنقاء التي يبشر بها المسلسل، والتي يحاول كسرها بخلق حالة تمرد أناركية (فوضوية) تحاول اختراق المدينة الفاضلة من أجل نشر العدالة في الكوكب.

وتذكر السوداوية التي يطرح بها العمل بسلسلة الخيال العلمي البريطانية "بلاك ميرور"، كما تذكر بأفلام سينمائية مختلفة (إن تايم، هانغر غايمز، ..) لكنها تتميز عن تلك الأفلام بالعمق الذي تقدمه، وإن كانت تميل للمبالغة أحياناً في تصوير التناقض بين العالمين المتخلف والمتحضر، حيث يظهر العالم الذي يأتي منه الأفراد الخاضعون للاختبار وكأنه شرق أوسط كبير لا نهائي يغمره البؤس والتصحر والأمراض والجريمة بشكل مبالغ فيه، وربما لو كان ذلك العالم أكثر حضارة بشكل يشبه المدن العادية اليوم لكان الأمر أكثر إقناعاً، لكن العمل يستند هنا يميل إلى التجريدية بشكل قاس لإيصال فلسفته الحادة.

يتعزز ذلك بصرياً بزوايا التصوير المائلة بشكل حاد والتي تعطي انطباعاً بانعدام التوازن، إضافة للألوان غير المحايدة واللامعة بشكل مقلق والصارخة بضرورة اتخاذ موقف مما يجري، فيما تتناوب اللقطات البعيدة جداً من فوق رؤوس الشخصيات ثم المركزة بشدة على وجوههم لخلق تضاد بصري إضافي.

والحال أن أجمل ما في "نيتفليكس" هو هذا الطيف الواسع من الأعمال التي قد لا يمتلك المشاهد العالمي إمكانية متابعتها أو السماع بها أصلاً لولا الخدمة، إنتاج مسلسل من البرازيل خطوة جريئة بالطبع وإن كانت مضمونة النتائج بالنسبة للشبكة، حيث يوجد من ورائها سوق مشاهدة كامل في أميركا الجنوبية مثلاً، كما أن جمهور "نيتفليكس" العالمي يحبذ هذه النوعية من الأعمال غير النمطية البعيدة عن الأسلوب الأميركي المعتاد في الطرح الدرامي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها