الثلاثاء 2016/10/25

آخر تحديث: 18:18 (بيروت)

سيدة الجحيم.. لا وردة الصحراء

الثلاثاء 2016/10/25
سيدة الجحيم.. لا وردة الصحراء
increase حجم الخط decrease
لم تعد أسماء الأسد "وردة الصحراء" أو "أميرة الشرق الأوسط"، كما أطلقت عليها وسائل إعلام اجنبية أواخر العام 2010، بل باتت اليوم، بعد خمس سنوات على الثورة في البلاد، "#سيدة_الجحيم" وزوجة الديكتاتور القاتل، والساحرة الشريرة التي تغذي جمالها بدماء السوريين.


وبصرف النظر عن رؤية الشعب السوري المعارض لنظام الحكم في البلاد، لها، إلا أنها كرست تلك الصورة في الفيلم الوثائقي الذي أعدته قناة "روسيا 24" عنها قبل أيام، ورسخت الصورة الشريرة، طوال 37 دقيقة.

لعلها الدناءة بدلاً من الشر، التي توصف بها شخصية "السيدة الأولى". فطوال الفيلم، تظهر الأسد بابتسامة كبيرة تزداد اتساعاً عند حديثها عن الموت والضحايا من السوريين، وكأن ذكر هذه الفواجع المخيفة يجعل وجهها الخالي من الماكياج يشرق تلقائياً، إضافة إلى سياق الفيلم الدعائي المبنيّ على إظهار الأسد، وهي تستقبل عائلات القتلى في القصر الرئاسي بالعاصمة دمشق أو تزورهم في منازلهم، كنوع من الهبة والتعويض عن الفقدان الذي عاشوه.

اختيار العائلات التي تظهر في الفيلم لم يكن عبثياً، بل جاء بعناية فائقة من قبل مستشاري النظام الإعلاميين لتنسجم مع سيناريو الفيلم الذي رسمته الصحافية الروسية، آنا أفاناسيفا، الناطقة باسم البروباغاندا السورية، لتأتي بقية التفاصيل كلمسات تجميلية تضفي على "سيدة الجحيم" مزيداً من التألق وسط البؤس اليومي.

جميع تلك العائلات تنتمي للطبقات الأكثر فقراً وبساطة في المجتمع، مع التركيز على الأمهات والجدات الطاعنات في السن، لإضفاء رمزية الأمومة المجتمعية على أسماء الأسد، وإعطاء الفيلم دفعة عاطفية، في وقت لا تقدم فيه الأسد سوى الكلمات. إذ يكفي لتلك العائلات "شرف اللقاء"، حيث لا يقدم النظام تعويضات حقيقية لعائلات القتلى أو مساعدات للجرحى ومبتوري الأعضاء، وهي نقطة تثير احتجاجاً واسعاً ضمن البيئة الحاضنة للنظام، عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

وهكذا، تسير الأسد خلال الفيلم على أشلاء الجنود المبتورة أعضاؤهم، وترفع ثوبها الطويل كي لا تمسه الدماء، تبتسم "كي تتحدى الرتابة اليومية"، مستغلة الألم السوري اليومي من أجل تلميع صورتها، أمام الجمهور المحلي بالدرجة الأولى. ولا يهم هنا إن كان القتلى والجرحى جنوداً في جيش النظام أم لا، لأنهم مجرد أدوات مهملة وجد لها النظام استعمالاً إعلامياً جديداً. ولأن الألم الإنساني للعائلات جراء الموت واحد ومشترك بغض النظر عن الانتماء السياسي، ويصبح الحزن أكبر مع التجنيد الإجباري الذي يفرضه النظام على السوريين في الداخل، حيث يصبح الجميع ضحية لسياسة النظام التعسفية.


وسبقت الفيلم مقابلة مع الأسد كانت الأولى لها منذ ثماني سنوات، ويستمد الفيلم منها كثيراً من التصريحات، حيث أمضى الفريق الروسي أسبوعاً كاملاً مع الأسد متنقلاً معها داخل العاصمة، وخارجها في محافظة السويداء القريبة، عندما زارت عائلة لجريح من جيش النظام هناك، لم يتلق أي دعم منذ خمس سنوات بشكل يكذب سياق الفيلم الذي تدعي فيه الأسد رعاية السوريين من جميع الانتماءات ولو كانوا معارضين للنظام.

ويرسم الفيلم حدود الوطنية، فيجب على الجرحى العودة لجبهات القتال فور تركيب أطراف اصطناعية لهم، ويجب على المتألمين إيقاف الألم والتحلي بالشجاعة وعدم الخوف من إجراء عمليات جراحية "كي لا يخيب ظن الرئيس بهم"، ويجب على الأمهات المفجوعات الصبر وتقديم مزيد من الأبناء للجبهة، لأن "الوطن يحتاج ذلك"، وكان لافتاً هنا أن ترجمة الفيلم للعربية تستبدل كلمة "الوطن" باسم بشار الأسد، رغم أن اللقاءات بالعربية مسموعة في الخلفية، علماً أن الترجمة العربية تمت بإشراف رئاسة الجمهورية وليس من قبل الفريق الروسي.

في السياق، تظهر الأسد في الفيلم من دون مرافقة "كأي سيدة سورية"، ونراها تقود سيارتها بنفسها مع الإشارة أن البلاد لا تمنع قيادة السيارات على النساء، في إشارة للملكة العربية السعودية التي يعتبرها النظام في لائحة أعدائه، ولا تخدع تلك اللقطات "العفوية" في أزقة دمشق أو على الطريق الدولي نحو السويداء، معظم المشاهدين الذين يدركون حتماً حجم التأهب الأمني والمرافقة التي لا تظهرها الكاميرا في لقطاتها البارعة ومونتاجها الدقيق، لكنها قد تخلق جواً من الحماسة لدى السوريين الأكثر بساطة الذين يصورهم الفيلم ويتوجه لهم من دون شك، حيث تبدو زوجة رئيس البلاد كبطلة خارقة تنتمي لهم وتشاركهم تفاصيلهم المرهقة، رغم كونها من طبقة النبلاء!

ولا يخفى على أحد أيضاً حجم الترف في إطلالة "السيدة الأولى" التي لا تتناسب مع أجواء الفيلم والتنقل، حتى أن أفراد العائلات علقوا أكثر من مرة على "أناقة الأسد وجمالها"، ويشكل ذلك تناقضاً مخيفاً مع حالة العائلات التي تطلب المساعدات المالية بصراحة في ظل الفقر المدقع الذي أصابهم، وتحديداً المصابون بعاهات دائمة نتيجة الحرب، مثل مبتوري الأطراف، التي تكرمت الأسد بزيارة لهم في أحد المراكز الطبية في منطقة برزة بدمشق.

ينسحب الفيلم من هذه الزاوية لرصد حياة الأسد اليومية، فنراها تتبادل الزيارات مع جيرانها وتتحدث عن أطفالها وعن الحب والزواج، حيث يجب أن تُرسَم كأنها إنسانة عادية ضمن سياق واحد يمتد للعام 2000 عندما ورث بشار الأسد الحكم عن أبيه، وبدأ سياسة الترويج لنفسه وعائلته على أنه "إنسان طبيعي في منصب رسمي"، مع إطلالات "عفوية" له ولزوجته وهما يمارسان أنشطة متنوعة بين المواطنين، كحضور المسرح أو السينما.

هذه الخصائص هي التي دفعت مجلة "فوغ" العالمية لوصف الأسد بـ"وردة الصحراء" على لسان رئيسة تحريرها، آنا وينتور، كما خصصت لها تحقيقاً من ثماني صفحات العام 2011 يكيل المديح لها وللانفتاح والأناقة الذي تمثله في قلب الشرق الأوسط، قبل أن تتراجع المجلة عن ذلك العام 2012 استنكاراً لما تشهده البلاد من مجازر دموية فضلت معها الأسد الانحياز لنظام زوجها القاتل. علماً أن صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية حينها، اتهمت "فوغ" بأن مديح عائلة الأسد كان عبارة عن مواد مدفوعة الأجر عبر شركات علاقات عامة وظفها النظام لتلميع صورته عالمياً.

ويتساءل المشاهد هنا، هل تعرف الأسد حقاً معنى الأمومة والحب والتعاطف والمعاناة كما تدعي؟ الجواب الأغلب هو لا، فهي تعيش في عالم جميل سحري في القصر الجمهوري بمنطقة المهاجرين، الذي يشبه بفخامته القصور في أفلام "ديزني"، وتدعي الأسد هنا أن القصر من تراث السوريين والدمشقيين، لكن الحقيقة أن القصر مجهول للغالبية الساحقة من السوريين، ويقع في دائرة أمنية مغلقة لا يسكنها أحد، ولا يصل إليه أحد، أما كذبة الحياة مع الجيران وتبادل الزيارات معهم، فهي أكبر من أن تنطلي على طفل في السادسة من عمره.

في ضوء ذلك، يبدو أن أسماء الاسد وبعد المجازر التي تمارسها آلة زوجها العسكرية في حرب الإبادة ضد الشعب السوري، تناست أن أسلوب "السياسة الناعمة" والوجه الجميل وارتداء الملابس الأنيقة من أشهر الماركات العالمية، لم تعد مفيدة للوضع السوري ولن تحرك الرأي العالمي إيجاباً نحو النظام ولو بشكل بسيط، لأن تلك الابتسامة المنمقة على الشاشات لن تخفي الماضي الأسود للنظام ولن تعيد للعائلات أفرادها الذي قتلوا فداء لاستمرار الديكتاتور في السلطة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها