السبت 2016/01/30

آخر تحديث: 12:47 (بيروت)

"بالنسبة لبكرا شو".. حياة مرّت من شارع الحمرا

السبت 2016/01/30
"بالنسبة لبكرا شو".. حياة مرّت من شارع الحمرا
increase حجم الخط decrease
أكتب مستمعاً إلى "بالنسبة لبكرا شو". وجدتها من دون عناء في "يوتيوب". أظن أن نسخة أصلية منها ما زالت محفوظة مع كيس الكاسيتات على التتخيتة في بيت العائلة.


لطالما اعتقدت أن المسرحية تبدأ قبل ثرثرة الزبائن التي تلحق المقدمة الموسيقية ليعود صوت ثريا فيعلو عليها، برنة كانت مقياسا لصوت المرأة بالنسبة لي، ولكنة خليط بين بيروت وجبل، وسخرية ولغة عادية لم تحك بها فيروز قط في مسرح الرحابنة، ولم نلتق بها في الدراما أو الكوميديا اللبنانيتين إلا في ما ندر.

لكن المسرحية تبدأ هكذا. من تواطؤ وقع مسبقا بين زوجين على خروج ثريا مع الزبائن، وبداية اختناق زكريا.

ثريا هي التي تسأل، بعد دقائق على المشهد الأول، بكل ما فيها من إرهاق، سؤالها الأثيري "بالنسبة لبكرا شو؟"، مفتتحة مجموع عبارات لم ترسخ في ذاكرتي فحسب، بل شكلت أرض لغة بكاملها أفكر الآن بأنها كانت اللغة التي مشيت بها إلى الحمرا، بصفتها المدينة التي قررت الانتماء إليها.

لم أعلم متى كانت آخر مرة جلست فيها متقصداً الاستماع إلى المسرحية، كما لا أذكر كم مرة فعلت ذلك في حياتي، حتى يرسخ في ذهني عمل مسرحي مسموع يقارب الثلاث ساعات طولا إلى درجة تمكنني من ترداد العبارة التالية في ذهني قبل أن ينطق بها مسيو انطوان، أو نجيب، أو ثريا، أو البقية الباقية من هذه المجموعة من الشخصيات الخيالية التي لا أبالغ إذ أقول إن معظمها خالد، وإن ظل صوت ثريا هو البطل.

رأيت صوراً للمسرحية بالأبيض والأسود، وسمعت مشاهد وصفها لمتعطش كنته، من أخي الذي أدمن وأصدقاؤه حضور عروضها في الأورلي في الحمرا في السبعينات. وبنيت وجوه الممثلين بمفعول رجعي. هكذا لم أعد أنتبه إلى أنها مسموعة فقط، بل إنني، بينما أسمع أصواتهم، أكاد أراهم يتحركون ويتقاتلون ويغنون في ساندي سناك، في الحمرا.

ليس الدرس الطبقي الذي بنى عليه زياد الرحباني عمله هو الباقي من المسرحية، بل الحمرا. خشبة "بالنسبة لبكرا شو"، اتسعت لتصير شارعاً ومناخاً، موسيقى زياد الرحباني دائما في خلفية مشهده، كذلك سخرية زكريا البراقة، وإحباطه وشعوره الراسخ بالكآبة لعجزه عن الانتماء لمكان يريد الانتماء إليه.

الحمرا لم تكن بديهية للآتين إليها من أطرافها. كانت تجريباً صعباً على المدينية، وحقلاً لاختبار الأحلام ومحاولات تحقيقها. لي، كانت شوارع ومقاهي، وجريدة السفير، وكانت أيضا ليلاً وجدت فيه أكثر من ساندي سناك، وكان صوت ثرثرة الساهرين مخلوطاً بموسيقى، لزياد غالبا، يعيدني إلى مألوف أحبه واطمئن إليه. قلدت زياد، لا شك، وتسامحت مع من يقلدونه بقصد أو لأن لغته طافت فيهم، وسمعت أصواتا تحكي بلهجة ثريا، وتتهكم بمثل ما تتهكم، وعلى الأرجح تدخن كثيرا، وترقص، وتسكر وتُكسر، تماما كما كان انكسار ثريا.

أحكي عن أبو إيلي والبارومتر والريغوستو. هذه الأماكن الثلاثة الأيقونية في الحمرا عرفتها قبل أن أجلس فيها بسبب المسرحية. فيها اختلط المشهدان وتداخلا حتى لم يعد واضحا الخط الفاصل بين الملون الحاضر، وبين الأبيض والأسود الذي لم أره يوما لكنني بنيته، كله، وكما أريد، في مخيلتي. ومن المرة الأولى لم أكن غريبا في أي منها، لأن لغتها وموسيقاها ومساحتها المغلقة على ناسها المتشابهين حد التطابق، والمتنافرين بشكل لا يعقل، مستعادة من ساندي سناك. ولأن زياد الرحباني كان باب العبور إلى هذا العالم الذي أحببته وكرهته وضجرت منه وضجر مني، وصار مع الوقت الجزء الأكبر والأبقى من حياتي. عالم شكلني وصنع هوية لي تشبه هويته التي رسمتها على طريقتها المسرحية.

و"ساندي سناك"، كان المكان الوحيد الواقعي الذي يمكن للعاديين أن يحاكوه، بعكس نزل السرور وفيلم أميركي طويل وشي فاشل وقرية سهرية الرحبانية.

المسرحية الوحيدة التي تُعاش في منطقة حقيقية. والحمرا منطقة أصلية وهي الوحيدة في بيروت، وفي لبنان، التي ارتقت إلى مدينة خالصة، تقبل كل ألوان الأفراد باختلافاتهم كافة، ويجرأون على اعتبارها شارعهم وملجأ ليلهم ورصيفهم ومقهاهم ومقعدهم، يسترخون فيه استرخاءهم في بيوتهم.

المدينة، الحمرا بالتحديد، العابقة في "بالنسبة لبكرا شو" هي سر بقائها وسحرها، وصمود لغتها المحكية متداولةً بين أجيال تبدأ بمن هم فوق الستين لتنتهي بالمراهقين. خيط مديد من التعبير هو الوحيد ربما الذي لم ينقطع على الرغم من تبدل الأحوال كلها، واختلاف التجارب، والزمن، والحرب وما بعدها، وكل ما تعرض له لبنان.

في مضمونها، لم تخرج المسرحية من زمن بيروت، ومن عاديات يومياتها، وتفاصيلها. التقطت لحظة سبعينية ما من المدينة، وحفظتها كما هي بأكثر ما استطاعت من واقعية ومن ذكاء، ومن موهبة رفيعة في الكتابة والموسيقى والتمثيل، فخلدت تلك اللحظة، وخلدت معها.

هذه اللحظة البيروتية هي التي تعود إلى الشاشة، وهي تتعدى رداءة الصورة والصوت والمونتاج والتصوير. كل هذا ليس مهما. ربما ينبغي ألا تكون "بالنسبة لبكرا شو" نقية ومصورة باحتراف ولا شوائب فيها، لأن ما رسمناه في مخيلاتنا، كلٌّ كما اشتهى، لم يكن واضحا وجليا ومحترفا. وإذ تأتي كما أتت فإنها تترك فسحة داخلية لحريتنا في الفرجة عليها، ولا تفرض نقاءها على شوائب الذاكرة.. لا تمحو ما استمتعنا باختراعه طوال عمر من الاستماع إلى صوت ثريا وزكريا ورامز ورضا..

مشاهدة هذا العمل بعد عقود على العيش معه وفيه، هي بمثابة تجربة صعبة جدا وممتعة ونادرة الحدوث إلى أقصى حد. ليس في الأمر استدراج للحنين أو متعة في المقارنة بين المتخيل والحقيقي فحسب، بل هي فرجة على شريط حياة خاص وحميم يختلط فيه رقص ثريا، برقص صديقة في البارومتر، وقصة حب نجيب بقصص الحب الكثيرة، وانكسارات زكريا بانكسارات الواهمين الذين شربوا كأس الحمرا حد الثمالة، حتى صارت ادمانا. هي لحظة خاصة ومبهمة لتتبع أثر حياة مرت من شارع الحمرا، وفرصة غالية للاختلاء بهذا الجزء الملتبس من بيروت والتحدث معه، واسترجاع الذكريات المشتركة، وهي لا تنتهي.

وهي لحظة مؤجلة بالنسبة لي، لأنني لست في بيروت، ولا أكتفي من مشاهدة الفيديوهات القصيرة التي تسرق من صالة السينما من بعيد. ومع أنه يفترض أن تكون رداءة على رداءة، إلا أنني أراها كما أحب أن أراها.

لحظة مؤجلة، لكنني على موعد معها، وفي الحمرا. أعرف أنني سأكون مأخوذا تماما، وأنني، بينما أتفرج على الصورة غير الواضحة، والصوت غير المفهوم، سأرى حياتي نفسها تمر. وبين الجالسين على بار ساندي سناك، أو الراقصين والراقصات أمامه، سأراني وأصدقائي، نرقص للحمرا ونغني لها ونشرب كأسها. أو على الأقل سأحلم بأنني أرى ذلك، وهذا يكفي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها