الإثنين 2016/01/18

آخر تحديث: 16:57 (بيروت)

إشعال الشبكات الاجتماعية.. مقياس المواد الإعلامية العربية

الإثنين 2016/01/18
إشعال الشبكات الاجتماعية.. مقياس المواد الإعلامية العربية
increase حجم الخط decrease
خلال الايام الماضية، نشرت صحيفة "الوطن" المصرية تقريراً حول متشرد في الأربعين من عمره، حاصل على درجة الماجستير في المحاسبة، لكنه خرج –وهو في كامل قواه العقلية ومايزال- إلى الشارع ليسكنه منذ ثلاث سنوات في هيئة الدراويش، وذلك لأنه ببساطة "فقد شغفه بالحياة"، وبالرغم من تلك المغريات التي يحتويها التقرير إلا أنه فشل في أن يشعل "مواقع التواصل الاجتماعي"! 


بالطبع لا نقصد الإساءة إلى التقرير المميز الذي أعدته الزميلة جهاد عباس التي اعدت التحقيق، ولكننا –فقط- نتساءل: لماذا، والتقرير يتشابه في مغرياته مع مواد عديدة سبق وأن شغلت مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي، لم يترك أي صدى مشابه لما تركته تلك الموضوعات؟
يُتهم الذين حصروا تفاعلهم الإنساني في مواقع التواصل الاجتماعي بالخفّة، وإذا كان الأمر حقيقي، فالتقرير يحتوي على ظاهرة مثيرة: درويش، حاصل على درجة الماجستير، متشرد بإرادته، صعوبة الحصول على وظيفة، يأس، فقدان الشغف بالحياة، فلماذا لم تدفعهم كل تلك العناصر لإشعال مواقعهم التواصلية، حيث لم تحقق المادة واستناداً إلى الصفحة الرسمية للوطن في فايسبوك –مثلا- غير 16 مشاركة ونحو 29 تعليق و192 إعجاب.

قد لا تكون صفحة الجريدة مقياساً لأداء المادة المنشورة. فربما حقق التقرير قراءات كبيرة فاقت تلك الظاهرة في موقع "فايسبوك"، ولكن هل هناك -في الأساس- ثمة مقياس نلجأ إليه لحساب أي تفاعل؟

في الحقيقة لم يعد الفرد بحاجة إلى أداة للقياس. ففي ظل ضبابية المشهد اليومي سياسياً واجتماعياً، تفتقر وسائل الميديا كلها (بما فيها مواقع التواصل) إلى المواد التي تسدّ فراغ محتواها، وبالتالي لا تجد أي مادة مثيرة للاهتمام صعوبة في أن تحتل منصاتها جميعاً، فيصير الفرد وكأنه محاصر بتلك المادة في كل مكان وزمان، وليس أبلغ مثالًا على ذلك من قصة بائع الفريسكا المصري التي شغلت الناس لفترة قريبة.

 إذا سلمنا بفرضية "خفة رواد مواقع التواصل الاجتماعي"، وعلى ضوء قصة بائع الفريسكا على سبيل المثال، سنجد أن ثمة محددات لإثارة التفاعل حول مادة ما، تلك المحددات تتعلق بما يسمى "الذات الافتراضية المتوهمة"، ذلك أن مرتاد موقع التواصل الاجتماعي يتفاعل مع المواد من شعور ذاتي متوهّم بالتفرّد، في حين يضع نفسه –دائما- في منطقة أعلى من المادة، فإما: يسخر منها (باعتباره الأكثر وعياً)، أو يحثّ عليها (باعتباره الأكثر استنارة)، أو يروج لها (باعتباره الأكثر إيجابية).

وبالعودة إلى تقرير الدرويش، سنجد أنه على تعدد مُثيرات الاهتمام التي يحتويها، إلا أنه لا يناسب تلك الذات الافتراضية، حيث يضعها في مرتبة أقل منه من حيث الجرأة. فكلنا وبدرجات مختلفة فاقدين للشغف بالحياة، ولكن ذلك الدرويش هو الجريء الوحيد. فهو لم يكتف فقط بالإفصاح عن شعوره، وإنما مارس ما يترجم ذلك الشعور بعزوفه عن الحياة نفسها، وهو أمر لا يقبل الأنماط التفاعلية الثلاث: السخرية/الحث/ الترويج، مثله في ذلك مثل فعل الانتحار، ولكن الأخير يستطيع إثارة التفاعل بشكل كبير.

أصدق مثال على هذا الأمر قصة الفتاة عازفة الناي التي زيفت موتها ثم عادت إلى الحياة لتنفيه بعد أن صارت حديث الساعة، ولكن يختلف الانتحار عن فعل الدرويش في مقدار حجم التفاعل لسببين: الأول وهو الدور الذي تلعبه "الشللية" (والتي تتغذى على الذات المتوهمة) في الترويج لأحد أفرادها، والثاني لأن الموت أساساً حتمية طبيعية، فإن لم تقدر عليه اليوم سيقدر هو عليك غدًا.

يقول العرب "أَشْعلَ الإناءُ: سالَ ماؤه مُتفرقًا"؛ لنتخيل أن الاصطلاح الصحافي "اشتعال مواقع التواصل الاجتماعي"، وجاء كترجمة لذلك التركيب اللغوي، عاكسين الحال، ثم نتساءل: أكان الأفضل للمعنى أن نستعيره من "الإشعال" بمعنى إضرام النيران؟

سنجد أن سيلان الماء أكثر صدقاً في التعبير، حيث يكون التفاعل مثل الرغبة في مشاركة البلل، ويكون زمن التفاعل سريعاً مثل الفترة التي يستغرقها المبتل حتى يجف، بحيث يكون قادراً على الابتلال مرة أخرى. أما النار فتشتعل ممهلة أو مندفعة ولكنها تترك من الأثر ما لا يمكن نسيانه.

وحيث أننا سلمنا إلى فرضية الخفة، فهذا يعني أن من تفاعل مع ذلك التقرير هم من في منطقة الثقل، أو الذين ليست لديهم تلك الذات المتوهمة، وأنهم المتفردون بالفعل في وقت ينسحق فيه الفرد داخل جماعته. لعلي إذن أسأل نفسي، وأشرك القارئ في طرح السؤال على نفسه: ما هي عدد المواد التي استحقت إثارة الاهتمام ولم تحقق التفاعل المرجو؟

إجابة ذلك السؤال لن تكون بديهية على الإطلاق، بل ستحتاج إلى بعض التدبر في التفكير، وربما تكون الإجابات عبر أمثلة لا تشابه قصة الدرويش في طابعها الإنساني الفردي. قد تكون قضايا عامة أو سياسية، أو قضايا حققت تفاعل حقيقي لكن الذاكرة خائنة، أو أن التفاعل تجاهها لم يحقق الرضا المنشود، ولن يعلق في ذاكرتك/ ذاكرتي غير تلك المواد التي أشعلتها "الجماعات" على مواقع التواصل، أو أنك لن تتذكرها أيضاً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها