السبت 2015/03/07

آخر تحديث: 13:52 (بيروت)

نريدُ بلاداً.. وفراغاً رئاسياً كاللبنانيين!

السبت 2015/03/07
نريدُ بلاداً.. وفراغاً رئاسياً كاللبنانيين!
لبنان كان مبهراً حتى لضباطِنا الذينَ خرجوا منهُ مالئينَ دباباتِهم بالزجاج الفرنسيّ
increase حجم الخط decrease

لم نكن نحلمُ بالريح، كانَ الهواءُ أقصى طموحاتِنا!
عندما ينتهي الكابوس، سوف نحلم.. ثمّة بلاد نراها في مناماتِنا، لا نعرفُها، تزورُنا غالباً فنستيقظُ باسمينَ كرضّعٍ رأوا في منامِهم زجاجةَ الحليب.
نريدُ بلاداً كباقي البشر، لنتقزّزَ من نفاياتِها، من عفونةِ رائحتها، من بيروقراطية مؤسساتِها، من فواتيرِ كهربائها، من غلاءِ تفّاحِها، من خبزِها "المدعوم من قبل الدولة"، من طرقاتِها الوعرة.
نحلمُ أن نستيقظَ فقط، وأن نشيخَ طبيعيّين. لا نريدُ بلاداً تكرهُ فلسطين، لكننا نريدُها تحبُّنا. تعرف بلداتِنا وقرانا وعائلاتِنا، مثلما تعرفُ بياراتِ البرتقال والزعتر البري...

سنكونُ أليفينَ ودودينَ وإنسانيينَ مبتسمينَ كما ينبغي للكاميرات، سنغسلُ وجوهَ أطفالِنا كلّ يومٍ ونمسحُ عن جباههم رملَ المخيماتِ وتواشيحَ الدم، وسنشتري لهم أحذيةً جديدةً لكي لا تؤذي أقدامُهم مساميرَ الأرض!

دعونا نستيقظُ، وسنعدكم بأننا لن نعلّمَ أبناءنا لعبةَ "شرطة حرامية". لن نشتري لهم بنادقَ بلاستيكيّة ليقتلوا أعداءهم. نعدكم.. دعوهم أحياءَ فقط. واتركوا لنا ولهم بلاداً ليسَ فيها "خبزٌ سياحيّ" وآخر عاديّ. في الخرابِ الذي لمتمونا على خرابهِ كانَ ثمةَ خبزٌ سياحيّ!

كنّا ننتظرُ القادمَ من لبنانَ ليحمله لنا مع بسكويت "الغندور"، شوكولا "كيندر"، مرتديلا طلياني، ومصّاصات "تشوبا تشوبس".. كنّا ننتظر الموزَ والسّجائرَ النظيفة، وأحاديثَهُ عن شكلِ أطرافِ "بيتزا هات" المحشوّة. لبنان كان مبهراً حتى لضباطِنا، أولئكَ الذينَ خرجوا منهُ بعدَ ربعٍ قرنٍ مالئينَ دباباتِهم وسياراتِهم بالزجاج الفرنسيّ المهرّب.. تخيّلوا، حمّلوا الدباباتِ زجاجاً وصناديقَ تبغٍ فاخر!

لم نرَ كلّ هذا، وكانَ من المخجلِ ألا ننتمي لمجتمعِ الإنتاج. درسنا كثيراً عن نواقصِ المجتمعِ الاستهلاكيّ وعيوبِه، لكنّ صورةَ "المصاصات" كانت أقوى من الاشتراكية والإنتاج، حتّى أنّنا مع الوقتِ تمنّينا أن نصبحَ مستهلكين! نعم... حلمنا أن نكونَ ضحايا للإعلانات التجارية!

فأن تكونَ مستهلكاً أمرٌ شاق جداً في بلادِنا..
في ذلكَ الخراب..
كانَ من الممكنِ أن نُضربَ لأننا اشترينا بطّاريّةً وطنيّةً للراديو: لِمَ لم تشترِ الأصليّة؟! كانت أوطانُنا تبيعنا البضائع المزوّرة، وتحيينا الحياةَ المزوّرة، لكنّ موتنا فيها، كانَ أصلياً... أصلياً جداً! وكنا فخورينَ بكلّ هذا، ذلكَ أنّنا لم نصدّق يوماً أنّ لنا بلاداً كالآخرين.. رقصنا طويلاً حينَ بنت مصر السدّ العالي، ولم نكترث لانهيارِ"سدّ زيزون" وغرق القرى والبشر في حماه. وغنّينا لنهرِ النيلِ في سهراتٍ لا تُنسى، رغم أنّ الماءَ كان يجفّ في بردى.

فخورينَ كنّا، بسجائرِ "الحمراء الطويلة" الخاصة بالتصدير. بقمحِنا الذهبيّ الذي صدّرناهُ ولم نذُق طعمهُ مرّةً لأنّ جودتَهُ عالية (فأمعاؤنا مخصصةٌ للأشياءِ ذاتِ الجودة المنخفضة)، بالاشتراكيةِ والإصلاحِ الزراعيّ وقروضِ الدّولة، بالتعليمِ المجاني، والطبابةِ المجّانية، والموتِ المجانيّ...

"صدّقنا كلّ شيء ".
قصّ آباؤنا ورقةً من دفاتِرنا، غيّروا شكلها، وقالوا: هذهِ سفينة. صدّقناهم، ووضعنا السفينة في الماءِ فلم ينجُ الحبر.. وغرقَت كذبةُ الآباء. معظمُنا لم يرَ القطارَ إلّا في الأفلامِ المصريّة، كنا نظنُّ دمشقَ نهايةَ العالم، آخر المدنِ وآخر الأرض، لم نفكّر يوماً أنّ وراءَ التلالِ بلاداً أخرى سوى بلادِنا، لولا أنني التقيتُ بـ"عبد الله الريامي" لاعتقدتُ أنّ العُمانيينَ ليسوا موجودينَ إلا في الكتب!

أولُ طائرةٍ شاهدناها كانت تلكَ التي رمت علينا البراميلَ المتفجّرة، فظننا أنّها منشوراتٌ مثل التي تُرمى في "الحركةِ التصحيحية"، فحاولنا التقاطَها كأنّها قصاصاتٌ ملوّنةٌ من مكارم السماءِ والقيادة. تأخّرنا لندركَ أنها قتلتنا، دهشةُ رؤيةِ الطائرةِ كانت أكبر من دهشةِ موتِنا.

ظننّا أنّ ماءَ البحر أزرق، إلى أن أخذنا آباؤنا إلى البحرِ، فتذوّقنا طعم السّمكِ لأول مرةٍ ونسينا أنّ لا لونَ للماء. ومرّاتٍ اشتروا لنا الشاورما وقالوا إنّهم أكلوا.... وناموا جائعين.
انتظرنا الأعيادَ لنشتري الثيابَ الجديدة... كانت المذيعةُ على التلفزيون تقولُ لعابري السّوق: كيف هيَ أجواءُ العيد.. هل اشتريتم الثياب؟!.

في ذلكَ الخرابِ الذي لُمتمونا على خرابِه، حدثَ كلّ هذا ولم ينبس أحدُنا ببنتِ شفة. كانت كارثتُنا أننا لا نعي أننا في كارثة!

والآن، نحنُ نقدّرُ انشغالاتِ العالم كلّهِ عن دمِنا المباح في بلادِنا، ومخيماتِ لجوئنا وأدراجِ بيوتِنا وأسرةِ نومِنا، نقولُ لكم فقط: نريدُ أن نحلم وحسب، أن ينتهي الكابوسُ لنحلم... أن نتذمّرَ مثلكم من الضرائب المرتفعة، ومن برودةِ الطقسِ وتأخرِ الثلج والقطارات، أن نسأمَ كاللبنانيين من الفراغِ الرئاسي... نريدُ فراغاً رئاسياً!

أن نفتحَ أفراناً للمعجناتِ، ونقيم معارض فنية وأسواقاً، وأن نعملَ جلساءَ للأطفال ونقيمَ سيركاً ونفتحَ صالونات حلاقةٍ وتجميل بلا موافقاتٍ أمنية، ومقاهي لا يكونُ من زوارِها العسسُ ورجالُ الأمن. نريدُ ليلاً لا توقظُ عتمته القذائف ولا وقع الخطى، فسيحاً كاملاً يتسعُ لأحلامنا. نريد بلاداً فقط، نحنُّ إليها كما يفعلُ النوستالجيون، نتحدّثُ عنها بشغفٍ للأجانبِ ونلعنُها في سرّنا.. نشتمُ رئيسَها في الوقتِ المستقطعِ بينَ حياتِهِ موتنا، وتليقُ بهجراتنا المقبلة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها