الخميس 2014/02/27

آخر تحديث: 06:56 (بيروت)

متنا، متنا، متنا

الخميس 2014/02/27
متنا، متنا، متنا
الصورة التي وزعتها الأونروا من مخيم اليرموك
increase حجم الخط decrease
 سمعنا. قرأنا. ذعرنا من الروايات المخيفة التي تُحكى عن اليرموك وكأنها قصص عالم تحت الأرض..
وكأنها حكايات رعب لم تقع إلا في بلاد بعيدة، بعيدة بُعد قدرتنا على تصور أنها حصلت فعلاً.
سمعنا عن اليرموك، وتبين أن ما سمعناه، أمام تلك الأجساد الهزيلة التي ماتت جوعاً، لا يفصح إلا عن القليل من ألم الهناك.
نحو 55 شخص ماتوا جوعاً. رأينا في الإعلام صور أخافتنا وشكّكتنا في إنسانيتنا.. ثم نسينا.
 
البارحة عرفنا أن صور الأجساد الصفراء، لها فصول أخرى. هذه صورة وكالة غوث اللاجئين-الأونروا، تُحشر فيها قوافل لآلاف الناس يرجون العالم والسلطات والله أن ينقذوهم من جحيم المخيم المحاصر منذ تموز 2013.
كتب الناس أن هذه الصورة كيوم الحشر، كيوم القيام، كنهاية للكون. وهؤلاء الذين في الصورة.. تمنوا لو كانت كذلك. ربما، ربما، كان هذا اليوم وضع حداً لعذابهم. ربما كان ساواهم بغيرهم من البشر.
 
من أين جاء كل هؤلاء، نقول لأنفسنا أمام الصورة. وكأننا أقنعنا أنفسنا أنه لا يمكن أن يكون كل هذا العدد من البشر محاصر في المخيم الجائع، والعالم يتفرج. شيء فينا ظن أن عدد العشرين ألف محاصر ليس سوى عدد، ليس حقيقة. رقم، ربما مبالغ فيه. وها هي الصورة تضعهم كلهم أمامنا، تحت السماء وبين الدمار وفي كل زقاق من أزقة الخوف.
 
لا دماء، ولا أشلاء.. لكن منظرهم في صورة واحدة أثار فينا الذعر. وكأنهم خرجوا من تحت الأنقاض ليؤنبوا ضمير كل من قصّر بحقهم.
تتجمد الصورة هناك، في الزمن الذي التقطت فيه في نهاية العام المنصرم. ويأتي تقرير مراسلة "بي بي سي" في سوريا ليز دوسيت، ليحكي عما سكتت عنه الصورة. يحكي عن هشاشة بشر ما إن تلتقطهم العدسة حتى تكر دموعهم وكأنه آخر ما لديهم ليعطوه للعالم. خذوا دموعنا. أعطونا الخبز. خذوا ما تبقى من بيوتنا، أخرجونا من هنا. خذونا.
 
تقول العجوز باكية أمام الكاميرا "طالعونا. دخيلكم. متنا. متنا. متنا". أيموتون بعدما ماتوا وهم أحياء؟ أيخيفهم الموت بعد هذا الذل؟
الطفل الذي يبذل جهداً مخيفاً لكبح دموعه.. ينهار بمجرد أن تسأله عن الخبز. يقول "ما في خبز".. وتفر دموعه.
شيء واحد مشترك في تلك المآسي المحفورة في الوجوه: بشر باتوا يشبهون الحجر. مدمرون. لا شيء يسعفهم على النطق. كل شيء فيهم مهشم، كتلك المباني، كتلك البيوت، كسوريا. الأحياء كالأموات. أجساد واقفة تنتظر فك الحصار، تنتظر الطعام، تنتظر الفرج في اليرموك. وأجساد لضحايا كمين الغوطة الشرقية مرمية امام العالم.. ولم يُزلها شيء سوى جرافة. جرافة نفسها للحجر والبشر.
 
كما هي الصورة نقلتها مراسلة "بي بي سي". بعيداً من استنطاق الحالات التي قابلتهم.. نصبت الكاميرا أمام وجوههم وتركتهم يتكلمون، مقدمة عملها بلغة تقريرية بسيطة، بعيدة من كثير من الإنشاء. فالأسى الذي رأته بعينيها لم يحتج إلى كثير من الوصف. لا كلام "ميديا" كثيراً يقال أمام هذه الصور. ربما مجموعة تساؤلات عن عمل ليز دوسيت وحرية تنقلها هناك، وجرأتها .. لكن الحدث في تقريرها يمس إنسانيتنا بالدرجة الأولى.. نشاهده ونبكي مع الباكين، ولا يغير تأثرنا الكثير. علاقتنا بالموت أصبحت وثيقة. اعتدنا صوره و"نترغل" كلمات الرثاء "كشربة ماء". اعتدنا صور الضحايا. لكن علاقتنا بالجائعين ساقطة إنسانياً.
 
 "متنا، متنا، متنا"
741-(1).png
increase حجم الخط decrease