الأربعاء 2014/02/19

آخر تحديث: 06:29 (بيروت)

لحظة يتوقف كل شي عند 'أنا منيحة'

الأربعاء 2014/02/19
لحظة يتوقف كل شي عند 'أنا منيحة'
شيقتان بالروح - عمل سارة توماس
increase حجم الخط decrease
 وسادتي غير المريحة تبلع عيناً من عينيّ. أنام على جنبي ويغرق وجهي في وسادة سمينة. العين الواحدة تبذل جهداً مضاعفاً لترى بوضوح الصفحة الستين من رواية..

اختفى النوم من عيني منذ الفجر. عما قليل تنهض جُود، وبعدها جنان، وتتوجهان إلى عملهما. تظنان أني نائمة. وانا أتكوم في سريري أنتظرهما.
 
أسمع من غرفتي المجاورة لغرفتهما صوت منبّه جود. لا تتجاوب معه. لا تنهض ولا تسكته. يرن للمرة الثانية.. أسمعها تتنهد "أوووف". أبتسم.. ما زالت تشعر بالنعاس. لكنها سرعان ما تنهض وتخرج من الغرفة، أنهض بدوري، فنصطدم ببعضنا عند البابين المتجاورين. جود تستيقظ لكن نصفها يبقى نائماً. تجر قدميها جراً في حركة مازحة. بعدها بقليل تنهض جنان. 
 
تنطلقان إلى عملهما. جنان بالقرب من وزارة العمل. جُود بالقرب من السفارة الإيرانية. بمجرد أن تغلقا الباب الرئيسي أهرع إلى الشرفة. هنا أسمع أي صوت لا أود أن أسمعه. في يدي هاتفي وأسمع صوت التلفاز من الصالون. نصف ساعة وينتهي كل شيء. ينتهي هذا الرعب. وصلتا؟ لم تصلا؟ تأخرتا بسبب زحمة السير؟ قررت جُود أن تشتري عصير الرمان من البائع عن ناصية الشارع؟ وصلتا؟ لم تصلا؟
 
أكرر الأسئلة في رأسي عشرات المرات. أجد نفسي أعيد دعاء غريباً يخيفني "يا رب، ليس اليوم.. ليس اليوم". أُبعد الموت إلى يوم آخر.. أي يوم آخر..
 
شريط الأسئلة يعاد كخيط صوف بين قوائم قطة.. يتداخل، يكر، يلتف حول نفسه.. يخنقني: وصلتا؟ لم تصلا؟ وقع الإنفجار؟ لم يقع الإنفجار؟
 
19-2-2014 وقع الإنفجار. على بُعد أمتار قليلة من مقر عمل جود.
 
 
خطوط الهاتف مشغولة ومعطلة. "الواتس آب" لا يعمل. أنا نفسي تعطلت.
يا رب، يا رب، يا رب.. أصرخ في المنزل. دخيلك يا رب. دخيلك.
 
كان يجب أن أوصلها. كنت سلكت طريقا مغايراً، كنت سلكت الطريق البحري وصعدت من الأوزاعي باتجاه منطقة الجناح. كنت أوصلتها إلى باب القناة. أوصلتها البارحة.. مررنا من هناك أنا وهي، وتحدثنا عن الاجراءات الأمنية المكثفة، وزيادة الحواجز الاسمنتية التي تتوزع أمام القنوات والشركات والسفارة. كان يجب أن أحضنها قبل أن تذهب. وأطعمها شوكولا بالنعناع. كان يجب أن أعيرها سترتي الجديدة، والحقيبة البنية. كان يجب أن أقبّلها. وأقول لها أحبك كثيراً يا أختي الصغيرة. أختي التي تشبهني كثيراً.. "ماي كوبي بايست" كما اعتادت أن تقول لي ساخرة.
 
**
طويلة خالتي هنية. كان هذا التعليق الوحيد الذي أقوله لأمي كلما زرناها. طويلة جداً. ونمرة رجلها كبيرة. تبتسم أمي وتضيف: "توصي على سكربينتها توصاية". لطيفة هذه الخالة. بنيتها القوية لم تسعفها لتنقذ نفسها من حادث أدى إلى شللها.
 
طويلة خالتي هنية، أرى الآن طولها بوضوح وهي ممددة فوق سريرها ويلمس رأسها أعلاه، فيما تلامس قدماها آخره. أقبّلها، وأقول لها أنا بنت غادة بتتذكرتيني؟ تهز برأسها وتسأل أين عبد؟
 
"الله يرحمه يا خالتي.. الله يرحمه".
 
نام عبد، ابنها الأصغر ولم ينهض. هكذا ببساطة، نام ونهض بقلب ساكت. ميسون، ابنة خالتي، زوجته، تحمله سريعاً إلى أقرب مستشفى. لم ينقذ أحد عبد. ترك خلفه ميسون وراما وإليسيا، طفلتان أكبرهما ابنة 12 سنة.
وينو عبد؟ تقول خالتي.. توفي عبد الكريم خازم في موزمبيق وهو في آخر العقد الرابع من  عمره، ولن يعود لها أبداً إلا مكفناً.
تطل السنة الجديدة على هذه العائلة الصغيرة بدفن ابنها. يأتي الرجل ليحملنه من أمام النساء. طويل عبد، بالكاد يسع جثمانه في التابوت الخشبي.
في الثاني من كانون الثاني 2014. الرابعة عصراً، تركت الضاحية الجنوبية لبيروت منذ قليل وأنا أحمل في وجهي دموع ميسون ودموع أخت عبد، هلا، وصراخهما.
 
قاسية، قاسية هذه الحياة أقول في سري مع انتهاء مراسم الدفن. يغادر معظم أفراد العائلة بيت أهل الفقيد في الغبيري إلى بيوتهم في الضاحية الجنوبية وبيروت والحدث والبقاع والجنوب.. بعد قليل سيقع انفجار حارة حريك. لا ينجح عقلي في احصاء عدد أفراد العائلة الذين من الممكن أن يكونوا قد مروا في ذلك الشارع. خالي؟ خالتي؟ خالتي الأخرى؟ أختي؟ جنان. أين أنت يا جنان؟
 
صوتها عبر الهاتف يردد جملة واحدة: هلق قطعت، هلق قطعت، هلق كنت بالشارع. هلق قطعت. يا ربي، يا ربي.
 
أجفل. "الحمد لله على السلامة"، أقول لها. أقفل الخط. وأقصد الكورنيش كأي لبناني تخنقه المدينة اليوم. لو يبلعنا البحر كلنا. دفعة واحدة. لا أجزاء، لا "فراطة"، لا أشلاء، لا محروقين، لا مقطعين، لا مختنقين. لو يبلعنا كلنا دفعة واحدة وكل منا قطعة "كاملة".
 
***
 
في صباح آخر، أجلس في المنزل.. أقلب صفحة من الجريدة، وأسمع في اللحظة عينها صوتاً عميقاً لكنه بعيد. أقول إنه خزان الجيران الذي يزعجنا دوماً.. 
الشريط الأحمر للأخبار العاجلة على التلفزيون يكذبني.

19 تشرين الثاني 2013 وقع انفجار السفارة الإيرانية. 
 
جُود، أصرخ وحيدة في المنزل. في اللحظات التي بحثت فيها عن الهاتف، وقلبت فيها بين الشاشات، لمحت نفسي شبحاً أمام المرآة. كيف، لماذا؟ ماذا لو؟ سألت نفسي تكراراً.. وكاد يهيأ إلي أن هذا السؤال مرّ أمامي على الشاشة. عشر دقائق هي الفترة التي تستغرقها جود لتصل إلى عملها. تنزل من سيارة الأجرة في الشارع الرئيسي، غالباً في نزلة السلطان إبراهيم بالقرب من السفارة الكويتية. تحتاج إلى سبع دقائق أخرى لتصل مشياً إلى القناة التي تعمل فيها. لديها أكثر من أربع طرق بإمكانها أن تسلكها لتصل إلى مقر عملها.

 أنجح بسماع صوتها بعد عشرات المحاولات..  
يأتي صوتها عبر الهاتف مرتجفاً: أنا منيحة.. أنا منيحة.. وتضيف شرحاً لم أركز عليه كثيراً في تلك اللحظة. قالت إنها مرت اليوم بالقرب من مبنى السفارة الضخم. وتأملت كل المباني المحيطة. ما الذي يمكن أن يروه من شرفاتهم؟ وعادت لتتنبه إلى أن الكثير من الشقق معروض للبيع.. 
 
في تلك اللحظة، توقف كل شيء عند "منيحة". لا أريد أن أعرف أكثر.
 
يحصل كل هذا، نرتجف من الموت. نخاف من الـ"ماذا لو".. يحصل كل هذا، ونحن لا نعيش في الضاحية الجنوبية لبيروت، ولا نعرف شيئاً عن عدد المرات التي "يموت ويعيش" فيها أهلها منذ اللحظة التي يقطعون فيها أعتاب بيوتهم. لا نعرف ولا نصدق أن الموت لصيق لصيق. لن نصدقه حتى يأخذنا معه.
 
increase حجم الخط decrease