السبت 2014/11/22

آخر تحديث: 13:28 (بيروت)

عن خمارة "فريدي" وثوب دمشق الفضفاض

السبت 2014/11/22
عن خمارة "فريدي" وثوب دمشق الفضفاض
"بار فريدي" للفنان سعد يكن
increase حجم الخط decrease
كانَ مشهداً مريراً جداً، يومَ دخلتُ مطعم "الريّس" في وسط دمشق قبلَ حوالي تسع سنوات، لأجدَ "جوزف" صاحب خمارة "فريدي" العريقة، وحيداً يحتسي كأساً هناك.

لم يقل الرجلُ السمينُ شيئاً.اكتفى بابتسامة شاحبة لحظة رميتُ السلامَ عليهِ إذ دخلت، وكأنّهُ استشفّ أنني أدركُ جيداً معنى أن تكونَ مرتبطاً بمكانٍ ما وتغادرهُ مجبراً. قسوةُ الأمرِ في الإجبار حتماً، فجوزف لم يقفل محلّهُ راضياً، لم يكتشف أنّهُ ملّ مهنتهُ بعدَ عمرٍ قضاهُ في تقديمِ الخمورِ لزبائنَهِ الأربعين الذين يتحلقونَ حولَ عشرِ طاولاتٍ في خمارة كانت عبارةً عن غرفةٍ وحيدةٍ معتمة على كتفِ تفرّعٍ ضيّق من شارع العابدِ وسط العاصمة، لم يحدث شيء من هذا.

أُجبِرَ جوزف على إقفالِ محلّهِ وتركِ مهنتهِ ومهنة والدهِ لمدة تزيدُ عن سبعينَ عاما، فاسحاً المجالَ أمامَ "المطعم الصحّي" لابتلاعِ الشارعِ، مثلما كانَ في حينها تغلغلُ "الإسلام المعتدل" يبتلعُ دمشقَ صحبةَ سلطةٍ عرفت تماماً الطريقَ الصحيحَ للقضاء على ملامحِ المدينة.

دخلتُ "فريدي" للمرّةِ الأولى العام 2004، كنتُ طالباً حديثاً في جامعةِ دمشق، غريباً عنها ومبهوراً بها كحالِ كلّ الغرباء. ساقني إليهِ الصديق الشاعر "وائل سعد الدين" (لا أعلمُ إن كانَ من الواجبِ التذكير دائماً أنهُ معتقلٌ منذُ عامٍ ونيف لدى السلطة السورية)، صغيراً ومعتماً وتعبقُ في هوائهِ رائحةُ امتزاجِ البيرة مع العرق، مع عرق الحاضرين! (لم تكن لطيفة بالطبع). فالمكانُ الذي كانَ مقصداً تاريخياً للكثير من الشخصيات المرموقة في سوريا في الخمسينات والستينات، لم يعد يمتلكُ هذه الصفة بعدَها. فرغمَ مواظبةِ روّادهِ القدامى على ارتيادهِ، إلا أنّ قلّة من مرتاديهِ الجدد كانوا معنيينَ بتاريخهِ أو بالبحث في تفاصيله. كانَ يكفيهم أنّ مكاناً ما يستقبلهم بسعرٍ بخسٍ في وسطِ العاصمةِ لا على أطرافها. بينما ظلّ "جوزف" يتغنى بتاريخِ "خمارته" أمامَ الأشخاصِ الذينَ يبادرونَهُ بالسؤالِ عنها، فحيناً يحدثكَ عن الأسماءِ التي دخلته، وحيناً آخرَ يفتحُ دفترَ حساباتِ والدِهِ الذي كان محتفظاً بهِ ليريكَ كيفَ أنّ "صدام حسين" بذاتهِ مدينٌ بليرة ونصف، ثمنَ مشروب تناولهُ العام 1959 ربما، ويختمُ دائماً بالقول "كلّ سوريا سكرت بفريدي"! ورغم أنّكَ لا ترى في المكانِ الضيقِ ملمحاً يشي بصدقِ ما يقولهُ الرجلُ، إلا أنك لا تملكُ إلا أن تصدقه!

فالطاولاتُ العشرُ التي تلتصقُ ببعضها تقريباً في مساحةٍ محدودةٍ للغاية، تبدو مُتكأً لأصنافٍ مختلفةٍ من البشر، متنوعةٍ ولا يجمعها غالباً سوى الشحوب وسعرُ المشروبِ البخس! في "فريدي" لا بدّ أن تتعرّف على توفيق العشّا، الممثل السوري العتيق والذي ارتبطَ بذاكرةِ الأطفالِ بـشخصيةِ "ملسون" الكرتونية في برنامج "إفتح يا سمسم". وإن كنتَ محظوظاً برفيق من أصحاب الخبرة (كحالي وقتها مع وائل) فإنهُ سيدلُّكَ إلى الإذاعيّ الراحل محمد جومر، الذي يعرفُهُ السوريونَ من خلالِ برنامج "مرحباً يا صباح" الإذاعيّ.

وبما أنني كنتُ محظوظاً، فقد عرفتُ الاثنين، وعرفتُ معهما نموذجاً فريداً من "غرباء دمشق" إن صحّت التسمية. أولئكَ الذينَ من جنسياتٍ مختلفةٍ عاشوا في المكانِ وكانوا شهوداً أيضاً على مسيرتهِ نحو الخراب، مثالُ محمد دلّاج، الكاتب والممثل التونسي الذي جاءَ دمشق نهاية السبعينات وظلّ فيها حتى أقفِلت آخرُ خماراتِها العتيقة (ربما) وعادَ إلى بلاده!

أبو ماهر ايضاً لا بدّ أن تراه. شخصية روائية فريدة، أبو ماهر هذا، غاسلُ موتى واظبَ على "فريدي" مثلما واظبَ على أجسادِ موتاهُ لأكثر من ثلاثينَ عاماً، يتوزّعُ نهارهُ بينَ دكّة غسلِ الموتى و"فريدي" وفراشِهِ الليليّ بانتظامٍ شديدِ الانضباط، يبدأ في الخامسةِ فجراً مع الجثث، وينتهي منها ليبدأ دور "فريدي" من منتصفِ الظهيرةِ حتى موعدِ الفراش في التاسعة مساءً. وإن كنتَ دخلتَ "فريدي" في حياتِكَ قبل إقفاله ولم تعرف الرجل، فجرب أن تتذكرَ رجلاً طويلاً شديدَ السمرةِ تغطي عينيه نظارة سميكة وما إن يجلس حتى يطلبَ صحناً وسكيناً ويخرجُ من جيبهِ قرص "شنكليش" وحبةَ طماطم ويعدّ مازتهُ بنفسه، فإن حصلَ وتذكرت، فاعلم أنكَ تعرفت إلى أبي ماهر!

تتنوّعُ شخصياتُ "فريدي" وزوّارهُ، تنوعاً يشبهُ الحالةَ السوريةَ في وقتٍ من الأوقات، ويوثّقُ المكانُ جزءاً مهماً من تاريخِ دمشقَ الحديث عبرَ مرتاديهِ، والتحولَ المدهشَ في الحالةِ السوريةِ نحوَ الاستبداد. ليسَ تسطيحاً اعتبار ما جرى لـ"فريدي"، وأكثريةِ الحاناتِ العتيقةِ في سوريا، ملمحاً رئيسياً من ملامحِ القضاء على بنيةِ المدينة. فحتى إقفاله الأول، منتصفَ العقد الماضي، واحتجاج بعضِ الصحافيين والكتّاب على الأمرِ ونجاحهم في إعادة الحياةِ إليه لمدةٍ بسيطة قبلَ إقفالهِ نهائياً بعدها، أمرٌ ينمّ عن سنواتِ الغليان والاضطرابِ العشر التي استلمَ فيها الأسدُ الوريثُ مقاليدَ الحكم. سنوات حكمٍ ظلّ محافظاً خلالها على الرغبة بالاستبدادِ والفردية، لكنهُ أضافَ إليها ضحالةً في قراءةِ المدينةِ وآلياتِ التعاطي معها كي لا تبدو ثوباً فضفاضاً على جسدٍ، مثلما هي فعلاً. سيمرّ وقتٌ طويل قبل أن يعرفَ السوريون (وشعوبُ المنطقة على الأرجح) ما إذا كانوا محظوظين بتلكَ الضحالةِ التي دفعتهم لأن يقولوا: هذا يكفي!


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها