الإثنين 2014/09/22

آخر تحديث: 16:02 (بيروت)

هذا بعض الذي بيننا..

الإثنين 2014/09/22
هذا بعض الذي بيننا..
"القبلة" للفنان بطرس المعري
increase حجم الخط decrease

في البيت. سأكون بعد سنوات طويلة في بيت آخر غير الذي أنا فيه. بيت آخر لا تعرفين تفاصيله. لكن جدران إحدى غرفه ستحيطني مثل أم، وأشعر برعشة من برد لا أقدّر من أين تباغتني. سأقفل الباب والنوافذ رغم الطقس الحار لأني أكره الضجيج. البرد سيتسلل إلى أطرافي وأحس به كأنه يلسعني. أتلمس راحتي وأقيس مدى برودتهما. أتلمسهما وأتذكرك. لا أعرف كيف ستحضرين لكني سأتذكرك وأنا تحت وطأة البرد. أكون غافلاً عنك وتأتين. تقتحمين رأسي في أكثر اللحظات إنشغالاً عنك. تأتين إليّ حين لا أريد أن أستعيد ذكراك. أتذكرك وأحدث نفسي أني طوال تلك السنوات التي مرّت كنت أقول إني نسيتك.

ربما أكون نسيتك فعلاً ولم يبق منك سوى إلتماعة. لكن أجد ساعتها أنها إلتماعة، حين تومض أمام عين القلب، تكون كافية لأن تحرقها وتحيلها رماداً. هكذا أنا. أكون وقتها قد عهدت نفسي جيداً. أني لم أفلح في انتزاع يدك عن غشاء قلبي. يدك ستكون جاثمة فوق القلب وتمسّده أنى شاءت. تفعل هذا بإحكام وأنا لا أستطيع شيئاً إزاءها. أنا لم أستطع أن أكون أي شيء أمامك. كنت طفلاً على أبعد تقدير. كنت أنت التي تلقي برأسها على صدري وأنا الذي يتناهى صغيراً. أنت أمي في الحب. كل إمرأة في الحب أمّ، وأنت أمي. أمي التي تضحك وتبكي وتتذمر وتخاف. أمي التي تنسحق أمامي لأني ثمرة فؤادها. كنتِ مثل شجرة تدلّي أغصانها وتلامس الأرض لتظللني من كل شموس الكون. أما أنا فسيكون لي وجهي الذي أمسح عليه لأحثه على استعادة طيب ملمس راحتيك. حين كنت أغرق في جداول شعرك وأنتهي.

ربما، سيجيء الوقت ونلتقي من دون أن نكون خططنا لذلك اللقاء. الجبال لا تلتقي لكن البشر يلتقون. نحدث نفسَينا عندما نكون على مرأى من بعضنا. تنظرين بطرفك إلى رأسي وقد إشتعل شيباً. أولادك سيكونون كباراً. يسندونك ويجلسونك على الكرسي. وأنا أكون ساعتها أنظر إليك وأجهد في كتم إندفاعتي لأن أقترب منك وأكشح حجابك عن رأسك. أن أجتاز تلك المسافة التي أحسبها شاسعة وأسقط ذلك الرداء عن رأسك. سأكون متحرقاً لينكشف أمامي شعرك الذي يكون صار مثل النهايات.

نلتقي ويظل كل منا خلف طاولته. نجوم كلامنا تكون أفُلت، ونفضل أن نظل على صمتنا. لن يكون لنا سوى الصمت. أترك لعامل المقهى أن يتقدم نحوك ويسألك عن طلبك وأنصت إليك لأعرف ماذا ستطلبين، ثم أرفع له يدي وعندما يأتي إليّ أكرر عليه طلبك نفسه.

نشرب الشاي، كل خلف طاولته. نتشارك إرتعاشة الحنين ولا نتلامس. أكون عرفت ساعتها أنه لم يزل لحبي في قلبك مزار، على عكس ما كنت تدعين حين قررنا الإنفصال. عندما كنت تقولين لي "لم أعد أحبك. شوقي إليك خبا. نحن أصدقاء في أحسن الأحوال". سأرفع عن كاهلي كل شعور بأنك طوال ذلك الوقت كنت تقعين في حب أشخاص آخرين كانوا أفضل مني.

أكون أشرب الشاي وأحاول أن أكتب عن الوطن والأهل والحب. أخط حروفي وأمحوها. أقفل ملفاً وأفتح آخر جديداً. أقلب صفحات كتاب كنت قد جلبته معي وأسعى لأن أستكمل قراءته وأفشل. أتناول قصاصة ورقية أستخدمها فاصلاً بين صفحات الكتاب. أرنو إليك ويعبق أنفي برائحة ياسمين عتيق. أقرب القصاصة وأكتب عليها:

- الربيع يزهر في عينيّ

- هذا بعض الذي بيننا

...وأمضي.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها