الثلاثاء 2014/11/18

آخر تحديث: 16:26 (بيروت)

الحشيش أغلى.. يا فاتيما

الثلاثاء 2014/11/18
الحشيش أغلى.. يا فاتيما
يحيى الفخراني في فيلم "الكيف"
increase حجم الخط decrease

في 2010، ضيّقت الداخلية المصرية على تجار الحشيش، لسبب لا يعلمه أحد حتى الآن. إنتشرت الملاحقات الأمنية لتجار الصنف، الأمر الذي أدى إلى إرتفاع سعره بشكل غير مسبوق حينها يا فاتيما، حيث ارتفع "الصباع العادي"، وهو المقدار المتعارف عليه للبيع، إلى 150 جنيهاً بدلاً من 70 جنيهاً، فيما وصل "الفاخر" حينها إلى 200 جنيه بدلاً من 100 جنيه.

الصباع العادي هو الحشيش الذي تعرض لدمجه بالمنبهات والعقاقير "الكيميا"، والفاخر هو أقل أنواع الحشيش تعرضاً لها، الأمر الذي أدى حينها لتعكير مزاج الشارع المصري، الذي يتناول أغلبه الحشيش، حتى أنه بعد ثورة يناير خرجت بعض الايفيهيات التي تفيد بأن الثورة كانت بعدما منعت "الحكومة" الحشيش عن الشعب.

فى إحدى سهراتنا الخاصة، وبعدما تملكت مننا زهرة الخشخاش، سألت أحد أصدقائنا: "أنت إيه اللي بيجيبك تسهر معانا كل يوم؟"، فأجاب بصدق: "أنا باجي عشان أسهر وأنبسط وأشرب الحشيش اللي بيهدّيني". ضج الحضور بالضحك يا فاتيما. كانت الإجابة حقيقية. نحن هنا بحثاً عن السعادة. أصبحت جملة "الحشيش اللي بيهدّيني" الإيفيه الذي نصنع منه إيفيهاتنا بحسب المواقف. فإذا شعر أحدهم بالجوع، قال: "أنا عايز الأكل اللي بيهدّيني"، وإذا توقفت طرقات العاصمة وإكتظت السيارات وفشل عسكري المرور البائس فى حل الأزمة، هتف أحدنا: "أنا عايز النفق اللي بيهدّيني"... وهكذا، فى كل شيء يا فاتيما.

والتهدئة التي أقصدها هنا، ليست الحشيش للضحك أو للتغييب، وقد انصرف عنه مدخّنوه أو استبدلوه "بمزاج" آخر، بمرور الأيام وإنقلاب الأمور. وليست كمن يتناولونه قبل النوم، كمهدئ، وهم لا يستمتعون به. فالحشيش يا فاتيما، هو اختياري في صنع يومي الموازي، الحشيش هو من يصب تركيزي تجاه نفسي، ومن خلاله أقرر التعامل مع بقية مسائل اليوم، بأنها نقط صغيرة على هامش اليوم الذي رسمت معالمه بنفسي، فأتطرق إليها بهدوء وتركيز من دون التعامل معها بأنها أزمة أو نهاية اليوم. اليوم لا ينتهي. فطالما توافر الحشيش والمزيكا، اليوم لا ينتهي، ولا تستطيع أزمة تعكير صفوه. هذا لأننا إخترنا ذلك. الحشيش ليس مهدئاً لآلآم الأسنان، لكنه سينما، تقفين فيها موقف المخرج والمؤلف والممثلين. لا شيء يحدث خارج الخطوط العريضة التي تودّين اللعب فيها والسماح للآخرين بالمشاركة. فالشارع مؤذٍ، ومزدحم، والغباء مستشرٍ، ولا نملك ثمن الخروج.. وكل الحقائق لا تؤدي إلى شيءسوى المواقف التي نتخذها ممن حولنا. ورغبتنا في السعادة يجب أن تكون أقوى بكثير مما يتفق مع هوى المجتمع المصنوع من هوى السلطة.

صديقي أحمد بكر، شرح علاقتي بالحشيش، قال أني أحبه لأنه يجعلني أتوقف عن بصق الكلمات في وجوه الأغبياء، والمرور إلى نفسي ولعالمي.. لا نامت عيون الأغبياء ولا عرفوا قيمة الحشيش أبداً يا فاتيما.

ذات مرة، إقترح أحدهم مشاهدة فيلم "الكيف" أثناء جلستنا. هذا الفيلم هو أحد أفضل الأفلام المصرية. ورغم أنه يقدم معلومات غير حقيقية وغير علمية عن الحشيش، ورغم أنه يذهب بأن الوهم فقط هو من يسوق مَن يتناول الحشيش، ورغم إيمان كل من إتكأ على الحشيش في حياته بعدم صحة كل هذا.. فإن مريدي الحشيش، وإن كانوا يحاولون صنع واقع مختلف، لا يبذلون جهداً في إثبات الأشياء أو نفيها، هم فقط يستمتعون بما يمكن الإستمتاع به في المجال المطروح.

بعد تنحي مبارك، ومع إختفاء الداخلية من الشوارع المصرية، رغبةً في إذلال المواطنين الذين خرجوا عليها أو لم يحموها يوم هروبها، عادت أسعار الحشيش كما كانت، وزادت التجارة، وتعددت "الدولايب" بشكل مضاعف لما قبل الثورة، وإنتشر التجار الصغار و"الديلر" في كل حي. كان الشاب ذو الـ18 عاماً، يبيع ما معه من "صوابع" خلال 8 ساعات، مقابل مئتي جنيه وشريط من العقاقير. ليست تلك التسعيرة، لكنها الأغلب. وبإنتشار "التاجر الصغير"، أصبح الحشيش في أيدي الجميع مرة أخرى، وعاد مريدوه يتناقلون أخبار السوق يومياً، كما في السابق. اليوم حشيشة أحدهم أفضل، وغداً تاجر آخر، الوفاء في النهاية للحشيش وليس للتجار يا فاتيما.

منذ فترة، وبلا مبرر، عادت الأزمة مجدداً إلى الشارع المصري، وعادت الملاحقات الأمنية للتجار الصغار، وإرتفع سعر الحشيش مرة أخرى، فأصبح سعر الصباع العادي 120 جنيهاً، والفاخر 175. لكن الأزمات التي كانت تواجه مريديه في 2010، غير تلك التي تواجههم في 2014. الشارع المصري مُنهك إثر مروره بضائقة مالية لم تمر عليه من قبل، وإرتفاع أسعار كل شيء بشكل غير مسبوق، لم يترك رفاهية الحشيش للمواطنين كما كانت، فضلاً عن سوء الأيام.

أخيراً، أخبرني أكثر من صديق بإقلاعه عن التدخين، قبل أن يخبرني بعضهم بالعودة مجدداً. لا أستطيع تخيل نفسي في الإقلاع عن التدخين يا فاتيما. تلك وحدة لم أعدّ نفسي جيداً لمواجهتها والتعايش معها بعد. فالإقلاع عن التدخين لمن يشبهوننا، تخلٍّ عن رفيق للروح، غير مرهق، يتفهم تعاليم العزلة، يعاوننا طيلة الوقت على تبديل سوء الأيام. إعتماد نفسي؟ وبماذا أفادنا إعتمادنا النفسي على أشياء كثيرة صدقنا فيها؟

لا أزمة في الإعتماد النفسي على من لا يرهقوننا يا فاتيما. لا أزمة في الإعتماد النفسي على ما نحب ونأمن وجوده. والتدخين جدير بالإعتماد النفسي. إن أسوأ ما يمكن المرور به، هو النهوض من الركام على نصاب مشيدة في الروح. وللتدخين تلك المكانة. لا مساحة للعبث بالنقاط المضيئة في الروح، للمرور لواقع جديد لا نجد فيه راحة أو حياة وفق تعاليم غير تعاليمنا. وإن كان أفضل؟ ومن قال بأننا نفعل الأفضل أو نؤمن به؟

نحن لا نؤمن بشيء حقيقي سوى أنفسنا، ومن ثم يأتي إيماننا بالأشياء الأخرى، التي لا تتراص جنب بعضها البعض إلا بإختيارنا إياها. حينها فقط، نعطيها صفة الأفضل، ونميزها عن غيرها من إختيارات الحياة. حينها فقط، يمتثل القدر، ويتمثل جميله في محاصرتنا بالحياة التي نرسمها ونعيشها، لا ما فُرض علينا. فأنا لا أتخيل حياتي من دون إختياراتي، تماماً كما لو تخيلت نفسي في الإقلاع عن مراسلتك...
فأنا لا أثق بإرشادات الأغبياء في إختياراتي اللي بتهدّيني يا فاتيما.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها