الإثنين 2018/04/02

آخر تحديث: 12:26 (بيروت)

لن أعيش في جلباب عسكري

الإثنين 2018/04/02
لن أعيش في جلباب عسكري
increase حجم الخط decrease
قيل لي بأني ولدت من رحم الانتفاضة الأولى، وبأن أمي تشبثت بي قبل أن أصعد للحياة خلسة ظناَ من القدر بأنه سينجب لها "الذَكَر"، وهو وَسم تتباهى به نساء الحارة منذ القدم وحتى يومنا هذا. فلم يتبق من تلك الحكاية سوى عقدة "الذكر".
كنت أتربع في جوفها كأميرة في عرشها الملكي، لكني لم أدرك حينها رائحة العطر الذي أفضّله. والدتي كانت تلقي بظلالها على عطر الياسمين في كل صباح، وهذا ما كان يمرر لي، وقد أُصبت بداء الياسمين ولُقبت به.

قبل أن أشمّ ذاك العطر الفارسي المنعم بزهرة قرنفلية اللون، وقبل طقوس كل صباح، استيقظت على عتبة منزلنا القديم في ذاك الحي المكتظ بالسيارات "الفاخرة" وبها مقاعد مكسوة بالجلد الأسود، فيما استرقت النظر ومن وراء جدار لرجال ونساء وأطفال وشيوخ يركضون خلف مقاومتهم الشعبية رافضين بذلك التعنت الإسرائيلي وسرقة أراضيهم، أي أرض فلسطين.

قالت أمي مبتسمة : "أطلقت سراحك.. ومن ثم قُتل جندي إسرائيلي في ذاك الحي.". وبعد برهة استمعت نساء الحارة لزغاريد والدتي رغم أنها لم تنجب "الذكَر" كما كانت تتمنى، فقد أنجبت ياسمين. فهي من كانت تتعطش صباحاً لطوق الياسمين.

منذ ميلاد "الياسمين" وقبل موعد قدومها، لم تنطفئ الأغاني الثورية ولم يتوقف الثوار عن الهتاف بـ"الحرية"، وكانت أصواتهم تصدح لإعلان انتفاضة شعبية. وماذا عني أنا؟ هل كنت فتاة ثورية؟

كان أطفال الحي يلقبونني "حسن صبي"، لا سيما أن يدي لم تغادر زناد البنادق البلاستيكية، ولم أكن أرحم أعدائي وكنت أقتنص اللحظة لمنحهم متعة البوح بالألم بعد اصطيادهم بالخرز الملون.

لم أشعر يوماً بشغف البحث عن حذاء ساندريلا، حتى أن زوجة أبيها لم تثر فضولي آنذاك، والحكايات في عالمي الصغير لا تنتهي عند منتصف الليل. فكنا نتسلق أطراف النجوم لنداعب سماءً تجتمع في ها كل الأماني ونروي لأنفسنا حكايات بها: بندقية وزي عسكري.

15/8/1996 هو موعدنا مع البندقية. لم أكن ريتا في قصيدة لدرويش، وليس بيني وبينه صورة ومواعيد كثيرة، وما كنت أحلم سوى بدخول "العسكرية".. وفعلت.. وكانت ملامحي لا تتعدى الـ9 سنوات، حتى أن قائد المعسكر منحني عمراَ يضاف إلى عمري وكتب في بطاقة الانتساب: (سنة الميلاد 1985). إذ لم يكن شغفي وتمردي مبرراً كافياً لدخول "المخيم العسكري".

قبل هذه البندقية، علقت "الياسمين" آمالها الصغيرة على زي عسكري أخضر، وحذاء أسود تتوه في داخله قدماها الصغيرتان، وبندقية "كلاشنكوف". هو ذاك السلاح الروسي المتمرس في اقتناص الأهداف وعلى مدار خمس سنوات مضت، حيث لم يكن يفارق يديها الصغيرتين، ولم تعهد المكوث بقربه من دون حوار يعلمها لغة السلاح. 

لم أعلم برغبة والدي في قص شعري كما "حسن صبي"، أي كما أخي. فهل كان هو أيضاً يفضل خروج الذكَر من رحم الانتفاضة تلك، وقبل رحيله؟ 

حاولتُ كثيراً أن أظهر بمظهر العسكري الحاد والصارم، ولم أكن أكترث لتلك الملامح الأنثوية التي لم تكتمل بعمر الـ9 سنوات، وكل ما أردته في ذات الزمن أن أحقق رغبة العائلة بأن أحصل على رتبة عسكرية.

أذكر كيف التصق ذاك اليوم في مخيلتي، حينما أقترب مني قائد عسكري (لا أذكر كنيته) وهو يمسك عصاه الخشبية، وطلب مني وخز أذني بوردة حمراء كي يتمكن من معرفتي وتحريري من طابور يكتظ بالذكور، وقال لي: "كيف للياسمين بألا تعلق وردة في أذنها".

لم أكترث بوضع وردة على أذني كما طلب القائد وكنت اصطف تارة بقرب الذكور وتارة أخرى بجانب الإناث، وقد أغضبه ذاك التعنت وأفقده الصبر، حتى أنه أخرجني من "المخيم العسكري" ولم يدرك حكاية "لا حلَق في أذني". فمنذ ذاك الوقت لم أعلق وردة في أذني ولم يُهدني أحد حلقاً مزيناً بالخرز.. فلا شيء سوى خرز البندقية.

لم تهاجر تلك الحكاية مخيلة "الياسمين" حتى بعد مرور سنوات طويلة، فقد تعثرت تلك الأنثى بقدمي ذاك القائد العسكري والذي اعتاد على توبيخها أمام أقرانها في المخيم.

وفي لهفة اللقاء أقفلت يداها اللتان كانتا لا تهربان من الضرب، ورسمت ابتسامة وصفت بـ"ضحكة الانتصار"، وكأنها تريد اغتيال تلك اللحظة حينما كان يجبرها على انجاز تمارين صعبة لعدم ارتدائها الحلق.

وبصمت، حدق في وجهها وملامحها الأنثوية وقال متذاكياَ: "انت الياسمين.. أليس كذلك؟"
وهي أجابت: "نعم ..أنت ذاك القائد ..أتذكر!، وكيف عرفتني.."
أجاب: "تلك الشامة على خدك الأيمن ...تميزك"
وبضحكة تساءل: "ألم ترتدي الحلَق..؟ أجابت: "لا.. حتى أتذكرك".

قد تتوقف عقارب الساعة عند حكاية الزي العسكري، حيث لا مفر من العودة إلى تلك الياسمين والتي كانت تلقب بـ"حسن صبي"، تلك الحكاية قد حملت صاحبتها عبء البحث عن ذاتها، وأشعلت فيها ملامح التمرد قد يصعب ايجاده في مجتمع يرفض "المتردون" ويعلن الانصياع وراء الغير.

بعد سنوات، أزيل وهم العسكرية عن كتفي الياسمين، وتقلدت دور مقتنص للأخبار المارة، واكتفت بمهنة الصحافة دون العودة للبندقية، واستبدلت الرصاصة بالقصص والصور والعناوين، فذاك هو سلاحها في عصر تتعدد فيه الوجوه والاتجاهات.

قد تتساءلون، أين يرقد ظل ذاك القائد العسكري؟

في غرفة التحقيق تلك، تجلس الياسمين أمام القائد العسكري، وتردد أمامه: "صحافية.. لن أعيش في جلباب عسكري.. ولن أغمد قلمي كما أغمدت سلاحي ذات يوم".

أمسك بعصاه الخشبية، وأوصد الباب خلفه... والياسمين لم ترتدِ الحلَق بعد.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها