الخميس 2017/02/09

آخر تحديث: 13:08 (بيروت)

فَرق عُملة

الخميس 2017/02/09
فَرق عُملة
increase حجم الخط decrease
الليرة التركية تساوي 25 ليرة سوريّة فقط، وليس 100 أو ما فوق مثلما كان الحال في ذلك الوقت. هذا ما توصّل إليه الشاب السوري "مؤيّد" من دون أن ينتظر قرارات رسميّة وإنما بقرار صادرٍ عن بنات أفكاره لا يستند إلى شيء سوى الحاجة من جهة، والوَفرة من جهة ثانية، ولا يقيم وزناً لكَون الدولار هو مبتدأ العملات وخبرُها ومقياسها الأساسي.

حدثَ ذلك في عام 2015 عندما كانت الليرة التركية لا تزال تعيش إستقراراً نسبياً. وقتها لم يكن مستغرَباً أن تسمع مواطناً تركياً يعبّر عن اعتزازه بعملته الوطنية، ويباهي بنقش صورة مصطفى كمال أتاتورك عليها، ويَجدُ فيها ما يضاهي صورة جورج واشنطن على الدولار.

في بيتٍ بمدينة اسطنبول سكنَ "مؤيد" الذي تميز بكونه بشوشاً دوماً لكن لأسباب غير مفهومة، كما أنه كان دائم التفاؤل رغم عدم معرفته بوصفات أساتذة "التنمية البشرية".

وحيث أقام هذا الشاب العشريني، صادفَ الكثير من المسافرين الذين كانوا يبيتون ليلتين أو ثلاث قبل ركوب "البلمات" نحو اليونان للوصول إلى أوروبا، فقد كان الإسراع بمغادرة تركيا ضرورياً لأنه كلما طالت فترة إقامة أحدهم هنا فسيَتكلف "الشيء الفلاني". فهذه البلاد كالثقب الأسود القادر على ابتلاع أموال الفارين والباحثين عن الأمان. وإذا طاب المُقام لواحد منهم فيها، فسيخرج لاحقاً مُجرّداً من جزء لا بأس به من مدّخراته بعد أن ينفق بعضاً مما لديه على لوازم مؤقتة بينها ما يُستخدم لمرة واحدة. وآخرُ ما سيتم نزعه منه أو عنه هو سترة النجاة التي ستنضم إلى ركام لونيٍ فاقع على الشاطىء. هل كان البحر في حفلة تقشير برتقال؟

على الطاولة في منزل "مؤيد"، ركامٌ آخر يطغى عليه اللون الذهبيّ، إذ أنه يتألف من عشرات القطع النقدية من فئة 25 ليرة سوريّة. كانت هذه القطع من مخلفات إقامة المسافرين القصيرة وما يتركونه من أشياء لا حاجة لهم بها بعد أن يخرجوا من سوريا، ذلك أن التحركات اللاحقة نحو الشمال تقتضي الاستغناء عن كلّ ما يُثقل عليك سواء كانت حقائبَ أم لباساً أم نقوداً فقدَتْ قيمتها بعد تجاوز الحدود.

ذهبَ الجميع وتركوا "مؤيد" الذي لم تستهويه فكرة خوض مغامرة اللجوء نحو أوروبا، وآثر البقاء قريباً من بلده على أمل رؤية أهله بين الحين والآخر. فالطريق كان سالكاً بالاتجاهين آنذاك، والفيزا لم تكن شرطاً لدخول السوريين إلى تركيا. وخلال فترة لم تطُلْ قضاها "مؤيد" في اسطنبول، إستطاع الحصول على فرصة عمل في أحد معامل الألبسة التركية.

في تلك المرحلة، وقبل أن يتعلّم هذا الشاب أساسيات الحياة وفنونها في الغربة، انصرف إلى أمرٍ آخر بعد أن لاحظَ التشابه الكبير بين القطعتين النقديتين المعدنيتين؛ الليرة التركية والخمس وعشرين ليرة السوريّة.

الشكل والحجم فيهما تطابقٌ إلى حد كبير بالإضافة إلى وجود رأسَي أتاتورك وحافظ الأسد الذين يوحيان بتماثل آخر؛ كلها عناصر لفتت نظر الشاب السوري وشجعته على أن يتبضع من بقالية الحي بالليرة السورية خصوصاً وأن البائع التركي "مراد" لا يدقق فيما يقع بين يديه من نقود كحال الكثير من الباعة هنا. وبقي الأمر كذلك لفترة من الزمن استطاع خلالها "مؤيد" شراء حاجياته دون أن يدفع ليرة تركية واحدة. وأصبح مع الوقت من الزبائن المفضلين عند "مُراد" كونه يشتري من بقاليته باستمرار ولا يهمه أسعار السلع المرتفعة، أو حتى مقارنتها بنظيراتها في المتاجر الكبرى ذات التخفيضات.

وتحت تأثير شعوره بالإنجاز ورغبته بإظهار نفسه كداهية أمام رفاقه السوريين، باحَ "مؤيد" بسرّه، وراحَ يتحدث عما اعتبر أنه أكثر من عصفور اقتنصهم برمية واحدة. فقد وفّر المال وشعَرَ بأنه ردّ الاعتبار لنفسه من الأتراك بعد كل ما لاقاه من ربّ عمله الذي يُشغّله بشروط قاسية ومجحفة. يُضاف إلى ذلك شعور "مؤيد" بأنه جعلَ منَ "الوالد المُفدى" فاعلاً لا مفعولاً، فقد افتدى حافظ الأسد بحضوره- ولو صُوريّاً- كل ما احتاجه أحد السوريين هذه المرّة، وذلك على عكسِ ما كان متعارفاً عليه ومخططاً له منذ أن علّمونا بأنه "مفدّى".

لكن وبعد أقل من شهر نفذَت القطع النقدية من فئة الخمس وعشرين ليرة من منزل "مؤيد"، في وقت أُغلقت فيه الحدود بوجه السوريين الباحثين عن جنة الدول الأوروبية عقب اتخاذ جملة إجراءات بهذا الشأن.

ومنذ ذلك الحين شهدت الليرة التركية فترات تذبذب وتماسك وصعود وهبوط إلى أن أخذت قيمتها في الآونة الأخيرة تتراجع بشكل حاد يصعب فرملته، وكأنها جبلٌ جليدي يتسارع ذوبانه بفعل مجموعة عوامل ومتغيرات سياسية واقتصادية وأمنية.

يُقلّب "مؤيد" مواقع الانترنت ويقرأ تحليلاتٍ يقول فيها خبراء إن إحدى الطرق المفترضة لاستعادة الليرة التركية عافيتها هي بإلغاء الفيزا كشرط لدخول السوريين إلى تركيا ما سيسمح بعودة رافدٍ مهم من العملة الصعبة سيضخها الزائرون في شرايين الاقتصاد التركي.

يهرع "مؤيد" للاتصال بأهله في سوريا بعد أن عاد له الأمل بلقائهم ولو من باب الاحتمالات والتوقعات.
-:"مشتقلكن كتير ومو مصدق يمشي الحال وتجو تزوروني.
-:" ونحنا كتير اشتقنالك وأملنا كبير نشوفك عن قريب .. في حال إجينا لعندك ع تركيا شو بتحب نجبلك معنا؟"
-:"بدي سلامتكن ولا شي.. بس إذا فيكن تجيبولي خمس وعشرينات حجر ..من تبع المرسوم عليهن حافظ.. قدّ ما بيصرلكن". 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها