السبت 2017/01/28

آخر تحديث: 12:01 (بيروت)

"نقشت".. واضطررنا للدفاع عن الابتذال!

السبت 2017/01/28
"نقشت".. واضطررنا للدفاع عن الابتذال!
increase حجم الخط decrease
قبل شهر تقريباً، شاهدت مقطعاً من برنامج "نقشت/ take me out"، للمرة الأولى، وذلك حين غيّرت إبنتي الصغرى المحطة، أثناء الفاصل في برنامج "الرقص مع النجوم". 

ابنتي لم تتوقف عنده بالصدفة، وإنما بحثت عنه بعد حديث مع أصدقائها عبر "واتساب". دقيقة واحدة من متابعته، كانت كفيلة باستنفار غرائز الأمومة "الحامية" و"المربية" لديّ. خانني التعبير، فوجدتني أسأل ما الذي يجري، لتجيبني صغيرتي شارحة كيف تسير الحلقات. لم تنتبه أنني أتساءل عن الصيغة والشكل واللغة، فنبهتها، وفوجئت بجوابها: عادي!

أذكر أنني، يومها، استشعرتُ دقة الموقف، فامتنعت عن التعليق سلباً، وحاولت استيضاح سبب اهتمام ابنتي، التي لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها، ببرنامج مماثل. عندما علمت أنها لا تتابعه، وإنما تتابع تعليقات أصدقائها عليه، تناسيته. أما "النقاش" الذي احتشدت رؤوس أقلامه في ذهني، فأجّلته.

مروري على البرنامج تكرر في الأسابيع اللاحقة، لكن الحيز الذي كان يشغله لم يكن يتجاوز بضع دقائق أسبوعياً، إلى أن أثار الجدل الذي أثاره طوال الأسبوع المنصرم.

عندما قرأت تعليقات بعض الأصدقاء في "فايسبوك"، التي تسخر من قلق النائب حسن فضل الله، على "أخلاق" الأطفال، وعلى الرغم من اختلاف دوافعي عن دوافعه، وقاموس مصطلحاتي عن قاموسه، شعرت بأن سخريتهم تطاولني. وعندما وجدت آخرين يسارعون لإعلان دعمهم للبرنامج في مواجهة نائب "حزب الله"، استغربتُ. فمن قال إننا أمام خيارين لا ثالث لهما؟ من قال إن علينا أن نختار بين تعريف فضل الله للأخلاق، وتعريف هذا البرنامج للحرية، بحسب ما ظهر في مقدمة نشرة أخبار lbc ليل الأربعاء، التي دافعت فيها عنه، مصورة إياه، برنامجاً ثورياً نضاليّاً تنويرياً مكرساً لتحرير المرأة وخوض معاركها ضد تاريخ حافل بالتسلط الذكوري.

لقناة "إل بي سي" كامل الحرية في تصنيف برنامجها كما تريد. لكن لنا، على الأقل بعضنا، أن نعبّر كمشاهدين، عن اشمئزازنا منه، لاستسهاله اصطياد المشاهدين بشبكة الجنس، التي كيفما رُميت خرجت ملأى.

المشكلة ليست في الإيحاءات الجنسية نفسها، إذ لا يكاد حوار نجريه أو نسمعه، في يومياتنا ونهفاتنا وحتى في شتائمنا، يخلو من إيحاءات مماثلة. وقد طورت شرائح المجتمع اللبناني تسامحاً "لطيفاً" مع مثل هذه الإيحاءات. المشكلة تكمن في استعمالها لجذب المشاهدين، ما يستدعي تكثيفها في البرنامج بشكل مفتعل ومصطنع ومتكلّف، لتصبح كالتهريج.  

المسألة ليست، كما جاء في مقدمة النشرة، في مجاهرة أولئك النساء بخياراتهن وحتى بحياتهن الجنسية، المشكلة هي في استثمار المحطة لتلك "المجاهرة"، التي تليق بها تسمية "استعراض"، وتوظيفها لرفع نسب مشاهدة البرنامج. المشكلة إذن تكمن في متاجرة البرنامج بالجنس وادعاء المحطة أن ذلك يحصل بهدف التحرير، المشكلة في الدفاع عن السطحية والإبتذال والإسفاف، والإدعاء بأنها تنوير.
اليوم، وبعدما فُتح النقاش حول البرنامج، لم يعد في إمكاني الاستسلام أمام وصف ابنتي لما يدور فيه، بالعادي، لأنه ليس عادياً بل مبالغاً فيه. 

أشعر أن من واجبي، على الأقل، أن أعبّر لها عن رأيي فيه. 

من حقي أن أعبّر عن رأيي، من دون أن أُتّهم بأني ضد حرية التعبير. فاحترام حرية التعبير يعني أن نفسح للشخص مجالاً للتعبير عن رأيه، عن فكره، عن فنه، لكنه لا يلزمنا أبداً بأن نحترم الرأي نفسه، ولا يعطي للمُنتَج حصانة في مواجهة النقد.  

فالحق في النقد، جزء لا يتجزأ من حرية التعبير. بواسطته نستطيع أن نختلف من دون أن يلغي أحدنا الآخر. وفي الحالات عندما لا يكون في الإمكان الاكتفاء باستعمال جهاز التحكم، كما اقترحت "إل بي سي"، يأتي النقد ليكون البديل عن المنع.

من قال إني لا أستطيع أن أصف البرنامج بالفارغ والمبتذل، وفي الوقت عينه أرفض قمعه ومنعه بدعوى الحرص على الأخلاق والآداب العامة؟ ما هي الأخلاق أصلاً؟ وما هي الآداب العامة؟ وبالتالي ما هو التعرض لها؟

هنالك بيئات مختلفة وعديدة في لبنان، ولكلّ منها منظومتها القيمية المختلفة عن الأخرى. فأي تعريف للأخلاق يمكن اعتماده؟ وما العمل فيما لو تناقضت التعريفات؟ هل نرضخ لتعريف الفئة الأقدر على فرض تعريفها؟

أين تقف الحرية ليبدأ التعدي؟ ومن يرسم الخط الفاصل بينهما؟ ماذا يقول القانون؟ ومن يضمن، ممن يدعون السلطة لوقف البرنامج، بأن القمع سيتوقف عند هذا الحد؟ ماذا لو قررت السلطة اعتبار القضايا التي ينشط كثر منا دفاعاً عنها، مخلّة بالآداب العامة وخادشة للحياء؟ 

لأنني أقدس حريتي، ولأن حرية التعبير لا تتجزأ، لأنها حق لي ولغيري، أجدني مضطرة للدفاع عن البرنامج الذي وصفتُه بالهابط، معتبرة إياه ضريبة حرية التعبير، التي علينا أن ندفعها لكي نحمي أعمالاً أخرى قيّمة، ليصدق المثل الشعبي المصري القائل "عشان الورد ينسقي العليق".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها