الإثنين 2018/03/19

آخر تحديث: 15:33 (بيروت)

وراء رجل عظيم.. رجل

الإثنين 2018/03/19
وراء رجل عظيم.. رجل
مشهد من فيلم Mr. Gay Syria للمخرجة التركية عائشة توبراك
increase حجم الخط decrease
وراء كل رجل عظيم امرأة.. ووغالباً ما تكون الزوجة هي المقصودة. 
عبارة تستخدم بشكل روتيني للتعبير عن المساواة بين الرجل والمرأة، لكني لطالما رأيت فيها إجحافاً كبيراً في حقي وحق كل شخص مثليّ جنسياً، ليس فقط من ناحية الوجود المجرد بل أيضاً من مجرد الحلم بإحداث أثر إيجابي في المستقبل البعيد، لأنني ببساطة لن أحصل على زوجة وبالتالي لست ولن أكون رجلاً عظيماً في يوم من الأيام، بحسب المنطق السائد. كانت هذه الفكرة مزعجة وتستفزني، ولطالما شعرت بسببها أنني لا أنتمي إلى وطن بعينه.

بحثت عن الوطن في النظام السياسي الذي يحكم "سوريا الأسد"، فوجدت أن النظام أيضاً يغتصب حقوقي، ويحكم عليّ بالسجن أو الابتزاز الذي تمارسه "شرطة الأخلاق". بحثتُ في الدين عن الوطن، فوجدت أن الإسلام يحرّم المثلية ويعاقب عليها. لم أجد بديلاً ثالثاً أبحث فيه، كنت فاقداً للوطن.

والحال أن مصطلح الوطن والمرادف له بالألمانية كلمة "هايمات"، يعتبر مفهوماً متعدد المعاني، ويتغير من شخص إلى آخر تبعاً للجيل الذي ينتمي إليه وإلى عوامل أخرى، ديموغرافية وتعليمية ومعرفية. فمن وجهة نظر والدي، ذي الأعوام الـ75، على سبيل المثال، يرتبط الوطن بالأرض فقط، ولذلك رفض والدي الخروج من سوريا حتى يومنا هذا.

انتقل والداي العام 2012 بسبب الأحداث العسكرية الدموية التي بدأت تقترب من منزلنا الواقع في أحد ضواحي دمشق، والذي شيّداه في العام 1979، إلى مسقط رأسيهما في إحدى قرى جبل الزاوية في مدينة إدلب شمالاً. هناك يشعر والداي بأنهما ينتميان إلى تلك الأرض بالتحديد. الأرض التي ورثها والدي عن والده، فأقام فيها منزلاً ريفياً، زرع فيه الأشجار، واعتبره مملكته الذهبية ووطنه الصغير.

بالتالي، الوطن من وجه نظر والدي ليس سوى شيء مادي مرتبط بامتلاك الأرض، وهو مفهوم متناسب مع مرحلة طفولته في قريتنا الصغيرة منذ العام 1940، حيث كانت الأرض مصدر الرزق الوحيد، والعامل الذي يضفي الاستقرار على الحياة اليومية. فلكي يستمر الوطن والاستقرار، يجب الحفاظ على الأرض من جيل إلى جيل، أي ينبغي على كل فرد أن يتزوج ويبني له منزلاً بجوار العائلة كي يبدأ بدوره مهمة الاعتناء بقطعة الأرض ومحاولة توسيعها.

بعيداً من مسقط رأس والديّ، ولدتُ في دمشق، ولم تعد فكرة امتلاك الأرض مرتبطة بالوطن. خصوصاً أني لم أكن لأحقق ما يرغب فيه والداي من أمنيات بسيطة بأن أتزوج وأحافظ على اسم العائلة وأقوم بدوري في مهمة الحفاظ على الأرض.

في المدرسة الثانوية كان أصدقائي من المراهقين مشغولين بالحب واكتشاف أجسادهم: لكل منهم عشيقة وربما أكثر، وكانوا يستمعون إلى الأغاني التي تصف العشيقة بأنها الوطن. وفشلتُ مرة أخرى في أن أحصل على وطن خاص بي. لم أستطع أن أقع في حب فتاة طوال تلك السنوات. وفيما كان أصدقائي يتباهون بعدد العلاقات الجنسية التي مارسوها، أو ادعوا ممارستها، كنت أجلس في المقعد الأول كأي تلميذ مجتهد، وأنا أخشى الاعتراف بأن الفتيات لا يستهوينني.

في المرحلة الجامعية ازدادت المسألة تعقيداً، فأنا لا أملك وطناً، كما أني مختلف جداً عن زملائي. فكرة المثلية الجنسية في سوريا تعتبر عاراً على العائلة، وعاراً على كل شخص سوري، طالما أن المجتمع ما زال قائماً على فكرة الذكورة والصورة النمطية للرجل التي ترسخت عبر القصص الشعبية من جهة، والدين من جهة أخرى. شعرتُ بأن الأرض التي أعيش عليها تلفظني.

من جهة أخرى، وجدت أن الوطن من وجهة النظر البعثية سيكون حكراً على فئة محدودة من الأشخاص ممن انتموا إلى الحزب الحاكم وأصبحوا أسلحة فتاكة لنشر أفكاره واستمدوا قوتهم ووجودهم منه. هؤلاء يمتلكون كل شيء، بدءاً من المنح الدراسية، وصولاً إلى الوظائف في مؤسسات الدولة والترقي الوظيفي، وإمكانية الحصول على المال والنفوذ والاستقرار، كشروط مادية للإحساس بمعنى الوطن.

لم يعد لي وطن، لكني في بداية الثورة السورية، اعتقدتُ بحماسة أن الوقت قد حان كي أثور على كل شيء من حولي، لأن زخم الربيع العربي قد يكون فرصتي الوحيدة كي أجد وطناً يتقبلني. لكني، مع مرور السنوات، شاهدت كيف تم تفريغ الثورة من رموزها المثقفة والليبرالية المتسامحة، ليستعاض عنها برموز ذات خلفيات دينية، ترفض من حيث المبدأ حقوقي كشخص مثليّ الجنس، بل وتبيح قتلي أيضاً، كما النظام الذي يعاقبني بالسجن، وكما الدين الذي يبيح قتلي ورمي جثتي من مكان مرتفع، وهو ما كان يفعله تنظيم "داعش" في مناطق خلافته البائدة، حيث اعتقد عناصره بأنهم ينفذون مشيئة الله على الأرض التي يرغبون في جعلها وطنهم الكبير!

خرجتُ من سوريا العام 2014، بعدما ضاقت بي سبل البحث عن وطن. لم أكن أرغب سوى في العيش في مكان يقبلني كما أنا، مكان لست مهمشاً فيه ولا يجبرني على حياة مزدوجة كي أصبح مقبولاً ضمن المحيط الاجتماعي، مكان لا أضطر فيه إلى بذل مجهود للكذب.

لطالما عانت الأقليات في مختلف بقاع العالم من أجل الحصول على وطن، أقليات عرقية أو قومية أو دينية، أو أقليات مرتبطة بالنوع الاجتماعي كالمثليين، خصوصاً في ظل الأنظمة الديكتاتورية التي ارتبطت بشكل وثيق بالسلطة الدينية وأخذت شرعيتها منها. ولعل سعي البشرية نحو حياة أفضل، تتميز بالعدالة الاجتماعية، يرتبط بنضال طويل لتلك الفئات، كالملوّنين في الولايات المتحدة وغيرهم. لكن الحال في سوريا كان مختلفاً وبعيداً، لأنه لم يبدأ أصلاً، حيث أصبح رفض النظام للمثلية نابعاً من مطلب ديني أوسع، ووفق هذا المنطق وجد النظام الأقلوي الحاكم للأكثرية، طائفياً، مصدر قوته الوحيد في الإسلام. فتحالف مع رجال الدين، وطرح نفسه أمام الطائفة السنية الأوسع، كمدافع عن الإسلام المحافظ، بغض النظر عن هويته الطائفية الأصلية، وتشكل بالتالي ثلاثي الحكم القائم على الدين السلطة والمال.

ضمن هذا المشهد المعقد، لم يمتلك أحد جرأة الثورة على النظام والمجتمع والدين معاً، في ما يخص حقوق المثليين. فالأمر في هذه الحالة أكثر تعقيداً من الثورة على محظورات اجتماعية وسياسية أخرى، أقل "جدلية"، لأن المجتمع السوري ببنيته العرقية والإثنية المتنوعة، بين الأقلية والأكثرية، يمتلك وجهة نظر موحدة في ما يتعلق بالمثلية الجنسية، تتمثل برفضها، لكونها وصمة عار تلوث سمعة أي شيء ترتبط به.

أقيم في برلين منذ ثلاث سنوات. صحيح أن المدينة هنا تتقبل هويتي الجنسية، لكني ما زلت لاجئاً أجنبياً قادماً من سوريا، وما زلت خاضعاً لتصنيفات من نوع آخر: شرق أوسطي، مسلم، ملون، وقد صوّتت نسبة 14% من الشعب الألماني لحزب "البديل لأجل ألمانيا" وهؤلاء لا يقبلون وجودي على هذه الأرض لأسبابهم الخاصة.

ما زلت أبحث عن وطن أشعر أني أنتمي له مادياً وفكرياً. وطن أستطيع أن أقول فيه بأنه، أحياناً، قد يكون وراء رجُل عظيم.. رجُل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها