السبت 2017/12/16

آخر تحديث: 12:30 (بيروت)

القضية الفلسطينية ليست trendy#

السبت 2017/12/16
القضية الفلسطينية ليست trendy#
increase حجم الخط decrease
صديق كثير الثرثرة، كنت أجالسه في أحد مقاهي بيروت، نتبادل أطراف الحديث، أي حديث، ما دام يقتل الوقت. وبعدما ضاق بنا الكرسيان الصغيران، رحنا نبحث عن فضاءٍ أوسع نصبّ فيه تذمّرنا، علّه ينقذنا من ملل مشاكلنا الشخصية الجديدة القديمة. 
وكطقس من طقوس كسر هذا الملل الشخصي، أخذنا نمسح الكرة الأرضية تنقيباً عن أي قضية، قريبة كانت أم بعيدة، لنناقشها بهدف التلهية. لكن، لمّا حان دور القضية الفلسطينية، قال صديقي باقتضاب غير مسبوق: "لا رأي لي". فاجأني هذا الإفصاح، خصوصاً أن صديقي هذا معروف، داخل دائرتنا الاجتماعية، بحدّة آرائه ومواقفه تجاه كل قضايا المجتمع والسياسة، وهو لا يفوّت فرصةً لإستعراضها، والترويج لها. 

إلا أن اللامبالاة التي أبداها في سياق الحديث عن فلسطين بالذات، بوصفها قضية وليس مجرّد صراع، ليست عرضية. إذ تجسّدت، في سيناريوهات ومحادثات أخرى، بتأفف الحاضرين عند ذكر القضية الفلسطينية مثلاً، أو تغييرهم الحديث لموضوع آخر شيّق. تعبّر هذه "الأفأفة" عن حالة عامة من إنسلاخ الشباب العربي عن القضية الفلسطينية. فبمعزل عن خاصية فايسبوك التي تتيح للمستخدمين وسم صورهم بشعارات القضايا، يتحسّس المرء حالة من الملل العام تحيط بموضوع القضية الفلسطينية، والحديث عنه.

من الصفحات الفايسبوكية لأصداقئنا الإفتراضيين، التي تشبه لوحة كولاج مؤلفة من قصاصات ملونة بكافة قضايا العالم من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه، يلحظ المرء بُهتان ألوان القضية الفلسطينية. فوسط هذا الكولاج الحدثي المفعم بالألوان والمؤثرات الجاذبة للنظر، يبدو الهاشتاغ الفلسطيني رقصة فولكورية أو موالاً قديماً. وينتشر هذا الموقف المتململ من حمل القضية الفلسطينية كأنها واجب، حتى في أوساط "الثورجيين" اللبنانيين أو ما يعرف بالناشطين أو المناضلين. فعلى قاعدة الثورة على آبائهم- جيل الحرب الأهلية- وكلّ ما حملته الأجيال السابقة من رموزٍ وقضايا، يرفض الأبناء اليوم الإصطفاف مع القضية الفلسطينية، بإعتبارها أحد طقوس آبائنا الذين لم يكونوا متنورين بقدرنا نحن، الجيل المعولم.

فالشاشة الزرقاء أتاحت لأبناء جيلنا أن يصبحوا مقاتلين إفتراضيين، في كلّ جبهات العالم ولكلّ قضاياه. ونحن نعلن يومياً، بكثيرٍ من الإعتزاز والتنور، عن مناصرتنا أو تضامننا، عن رفضنا أو إستنكارنا لهذه القضية أو تلك. ونحن نغيّر واجهتنا الإفتراضية بإستمرار لتواكب آخر الصيحات النضالية، فنلبس ألوان قوس قزح تارةً، ونتضامن مع ضحايا هجوم ارهابي وقع في باريس أو نيس تارةً أخرى. ولا يقتصر الأمر على إعلان المواقف فحسب، بل أخذنا نصوغ الخطابات والسرديات أحياناً، ونستوردها في أحيانٍ أخرى. وبفعل تأثرنا الأزلي بالمنتج الغربي، فإنه من السهل أن ننساق إلى ما يصدّره من صيحاتٍ ثقافية لا تشمل أجنداتها، بالغالب، القضية الفلسطينية. 

إن التدفق الغزير للقضايا والعقائد، بما فيها من بالٍ ومن حدثي، وما يصاحبه من عبثٍ أيديولوجي، يتجسّد في التناقض الحادّ بين الإنصهار بقضيةٍ أو نبذها بالكامل. أما القضية الفلسطينية، فهي تبدو في التنهيدة التي يطلقها البعض لمجرّد ذكر الكلمة، وكأنها عبء قسري يثقل كاهل الشباب، ويشغله عن معالجة ومناصرة سائر قضايا العالم. 

ولعلّ أكثر ما يدلّ على إنفصال الشباب اللبناني عن القضية الفلسطينية، هو أسلوب تعاطيه مع فكرة المقاطعة عموماً، ومع حركة المقاطعة في لبنان على وجه التحديد. ففي حين تمثّل حركة المقاطعة العالمية لإسرائيل، أداة ثورية في بعض الدول الغربية حيث يُمنع الحديث عن "إحتلال إسرائيلي" في الخطاب السائد، بالإضافة إلى كونها آخر وسائل الضغط بالنسبة للفلسطينيين المنتشرين في بقاع الأرض، ينظر إليها بعض الشباب اللبناني على انها ديناصور أبى أن ينقرض. ينتقد هؤلاء جهود الفلسطينيين المغتربين في تذكير المجتمع الدولي بدولة الفصل العنصري القائمة على حدودهم، ويحتجون في كلّ مرةٍ تدعو فيها هذه الحملة فناناً عالمياً إلى المقاطعة الثقافية. 

وقد تردّد، في الآونة الأخيرة، الخطاب الرامي إلى تعرية الفن من السياسة، لا سيّما في قضية المخرج زياد دويري، وقبلها حين أبدى البعض إمتعاضه من الضغط الذي مارسته حركة المقاطعة على فرقة "رايديوهيد" البريطانية كي لا تحيي حفلة في تل أبيب. يومها، توجهت الحركة إلى المغني توم يورك، المشهور بمواقف سياسية تجاه قضايا عالمية، داعيةً إياه ألا يشيح النظر عن قضيةٍ "غير دارجة". وربّما يجدر بها أن تتقدّم بهذه الدعوة إلى المجتمع اللبناني، على قاعدة "الأقربون أولى بالمعروف".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها