الأربعاء 2018/01/24

آخر تحديث: 15:37 (بيروت)

سلمى جهاد بزي

الأربعاء 2018/01/24
سلمى جهاد بزي
عُريّها التام أمام ذاتها، وانكشافها المدوّي أمام الآخرين، بدا للوهلة الأولى مدهشاً ومثيراً
increase حجم الخط decrease
لم أكن أعرفها مسبقاً. تعرّفت إليها مؤخراً فيما كانت تهذي بأحلام يقظتها. تَصَافحنا حين قلبت الصفحة الأولى. بَدَأت مباشرة بالتعريف عن نفسها، بعدما أجلستني على شرفة بيتها في الجزيرة اليونانية. تمددت أمامي على كرسي خشبي أزرق، يمرّ الهواء في شعرها وعلى عنقها. تتكلّم بحماسة زائدة لتجذبني إلى داخلها، تستعرض مشاعرها ومشاهد حياتها، تعيدني بخفّة إلى مقعدي، تركن إلى ذاتها.

تُطلق جفنيها، تستسلم لسريان انسياب لذة الشعور بالحرية الذي يتدفق في أوصالها، المستتبع بالإحساس المطلق بالخفّة. تمدّ أصابعها إلى رأسها، تنزع ما علق في عقلها من ثقل الكلام، وتمسح ما عليه من ترسبات وغبار، تعبث بفيزياء اللعبة الأفعوانية، تكسر قوانينها. تجلس في المقعد من دون أربطة ولا أحزمة وتنطلق في أفق آخر. تنساب عميقاً في فانتازيا التحليق. غيوم سُود وبِيض تفصل بين عوالمها المتوازية. تتهادى على شطآن السماء، تخطو على السحاب. هكذا تحيا وهكذا تعيش هناك، حرّة بأفكارها وخيالها وسعيدة بتقاسيم جسدها وشعرها المتطاير.

رغم إتقانها للسير على جنبات أرصفة الحياة، إلا أنها فتاة لا تتقن الصعود ولا الهبوط، لذا عجزت أن تخبرنا عن مسيرة التحولات منذ البداية عبوراً نحو تصوّر بمستقبل طموح أو فاشل، مضطرب أو هادىء، سعيد، حزين، أو عادي. تتركنا في دائرة الحيرة محاطين بمجموعة من علامات السؤال والتعجب. لماذا لم تخبرنا سلمى بما هو أبعد وأعمق من ذلك؟ هل ذلك ناتج عن نيّة مقصودة؟ هل هذا ما تعتبره مهماً لتخبرنا إياه؟ هل انتُزعت صفحات كاملة من رواية حياتها؟ هل أمسكت القلم ورسمت تصوّرات وخطت سيناريوهات لما تريد أن تكون عليه وكيف ستكون؟ أم أنّ حياتها كانت بلا معنى لدرجة أنها بالحب والجنس تُقاس وتبدأ وتنتهي.

أحببت سلمى في أماكن عديدة، بقدر ما كرهتها. ممتعة ومسلّية بقدر ما هي مملة ونكدة. لكن ما يشهد لها به إتقانها فنّ التعبير عن ذاتها وعن عوالمها المحيطة بها، سواء كانت حوائط ضيّقة أو آفاق باتساع الكون. قلم جهاد بزي يطبق عليك بأسلوب أنيق ومذهل، يجري بسلاسة متحرراً من وطأة الاستعراض اللغوي والتعالي الأدبي. يُمسك بتلابيبنا مرة أخرى. فمن خلال روايته "المحجبة"، ألقى بنا في بحر من سرديات وأدخلنا في تفاصيل يوميات سلمى، تلك التي تركها على سجيتها، تصرخ وتثرثر وتقهقه على إيقاع واحد، دونما كلل أو ضجر. تتداخل صورها التي تتشكل في ذهني. في لقائي الأول مع صفحات الرواية، بدت لي سلمى متخففة من إشكاليات والتباسات صراعاتها الداخلية، متصالحة مع خياراتها وأسلوب حياتها. عُريّها التام أمام ذاتها، وانكشافها المدوّي أمام الآخرين من حولها، بدا للوهلة الأولى مدهشاً ومثيراً، قيّماً ونفيساً، يستحق معالجته والكتابة عنه ونقل تجربته.

لكنّ تعمّقي في الرواية كان يتوازى مع إصرار سلمى بالبقاء على سطحها، ما جعل من تكتكة الساعة عداً تنازلياً، أعلن بداية افتكاكي من الرواية وأنا في منتصفها، وذلك حين أدركت تعاظم الشرخ الذي استحال هوّة حالت دون استمرارية الالتحام ما بين الاسلوب والفكرة.

كنت أتوق منذ البداية إلى معرفة من هي سلمى، من هي جدتها؟ من هي أمها؟ من هم أخواتها؟ من هم مدرّساتها؟ في أي جوّ نشأت؟ كيف تغيّر ذوقها في الطعام والأغاني ومشاهدة الأفلام وقراءة الروايات؟ كنت أريد أن أفهمها. أفهم ما كانت عليه وما أصبحت. وكان السياق يسمح بذلك. لكني انتظرت وانتظرت ولم يأتِ.

كنت أرغب في التعرّف على البيئة المحيطة بها، على صديقاتها وأصدقائها. ما هي قصصهم؟ ما مدى تأثرهم بسلمى ومدى تأثر سلمى بهم؟ أين نجاحاتهم؟ أين انتكاساتهم؟ أين مرضهم؟ أين الأحداث التي تصير معهم؟ فكي تكون سلمى، يجب أن يكون هناك ما يستلزم وجودها. وما يجب أن يتفاعل معه عقلها ما كان يجب أن يقتصر على شاب وحبيب وصديقة. هناك زملاء العمل، السائق، والناطور، الجيران، والفاليه باركينغ، وبائع الماء وجابي الكهرباء. أين قصصهم؟ أين معاناتهم؟ أيطلب منا أن نحبّ سلمى التي لا يشغلها إلا نفسها؟!

أدرك جيداً أنه لا يتوجب علينا أن نحبّ كل أبطال الروايات التي نقرأها، لكن عندما تكون الرواية هي البطلة، والبطلة هي الرواية، سنبذل جهداً أكبر حين يخفت الشوق وتتكرر المواقف وتتماثل الأحداث وردات الأفعال، وتنبعث المشاعر نفسها التي لم نعلم كيف تتكون، كوننا لم ندخل إلى الكيمياء التي دفعت إلى تغيير قناعات أو تحفيز مواقف. كله متروك لداخل سلمى، تلك التي لم تقدّم في يومياتها ما يستحق التوقف عنده. هي تقول إنّ صديقة حبيبها، شيرين، ظلّت عاجزة عن القبض على أسلوبها. نحن قبضنا على الأسلوب واستجوبناه، وتبيّن أن المشكلة ليست فيه، بل تكمن في تركيبة الشخصية ومنظورها للحياة، والذي لشدّة ما ضاق ربما كان يستوجب التفكير في عنوان آخر للرواية. ربما شيء مثل "حكاية الضياع"، لا أعلم. لكن هذا ما خطر في بالي، كلما تهت وشعرت بالارباك وأنا أسمع قصص سلمى وأسير بجانبها. ولست أنا التي حكمت عليها، هي التي حكمت على نفسها قبل أي أحد آخر.

لا يشفع للكاتب تورطه العاطفي مع بطلة روايته، والذي كان ضرورياً لإتقان حياكة وتقمّص كل تلك المشاعر الأنثوية بأدق تفاصيلها، والتي برع الكاتب أيما براعة في التعبير عنها وإيصال مدفونات مكنوناتها. إلا أنّ الحجاب الذي دارت حوله الرواية، بدا وكأنه لم يحجب شَعر سلمى فحسب، إذ حجب إنسانيتها أيضاً من خلال ارتكازها على محور ذاتها، ومن خلال السماح بالحكم على المجتمع بأكمله من خلال منظور فرد واحد.

إظهار الجنس كقيمة عليا في الرواية، أو كأنه ذروة التحرر لم يخدم الرواية على الإطلاق، كونه لم يتماشَ مع إبراز تحرر البطلة فكرياً بالمستوى نفسه، ولا يعني بأي حال بكونها محجبة تمارس الجنس خارج الزواج، بأنها قد كسرت التابو العظيم الذي يرشحها لمنصب بطلة عادية أو فوق العادة في رواية. فما فعلته مع حبيبها، حسن، ولاحقاً مع صديقها، ميشال، قد يحصل مع أي فتاة تتصارع في دواخلها دوافع الحب والرغبة والإحباط.

الكثير من الروايات ذات المحتوى الجنسي الأعلى والأكثر كثافة خدمت القصة وسياقها بشكل أفضل، فيما بدا جهاد بزي رائعاً كعادته في المزج بين رشاقة الأسلوب وغنى المصطلحات ومهارة التعبير وقدرته البارعة على سرد التفاصيل وإشباعها لمعاناً وبريقاً، إلا أنه لم يستطع أن يكون رافعة لسلمى التي تركها تتكلم على هواها في الرواية، فيما وقف وكأنه مايسترو سمح لعازفه المنفرد أن يعزف لحناً رديئاً، خرج فيه عن السوناتة الجميلة التي قبض عليها في يده. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها