الإثنين 2017/12/11

آخر تحديث: 04:12 (بيروت)

القدس كجزء من منهاج البعث

الإثنين 2017/12/11
القدس كجزء من منهاج البعث
increase حجم الخط decrease

للوهلة الأولى ظننت أنني أحلم بكابوس قصير من ذكريات "سوريا المخيفة" السابقة وأنا أسمع صوتاً يملأ المكان حولي بصخب "أناديكم أشد على أياديكم". تلمست وسادتي وشددت بأصابعي على الملاءات وتقلبت في سريري بقلق كي "أعيش اللحظة" بشيء من الدراما المصنّعة ذاتياً، لكنني تذكرت فجأة أنني شخص لا يحلم مطلقاً وأن نومي القصير عبارة عن شاشة سوداء مطفأة دائماً.

لم أفتح عيوني بعد، الصوت مازال موجوداً ويستمر في ترديد الكلمات الخالية من المعنى. ربما انتقلت إلى واقع مواز أستعيد فيه حياتي القديمة أو أن الزمن تداخل مثلما ينبغي له وانفصلت بوعيي إلى كيانين متداخلين أو أن شبح عزيزي تشارلز ديكنز يود أن يمرح قليلاً مع أحد كبار معجبيه الأرضيين الفانين باعتبار أن عيد الميلاد بات قريباً. وبقدر ما كانت كل تلك الاحتمالات مبهجة إلا أن معرفتي العميقة بقلة الابتكار في الكون التقليدي، جعلتني مضطراً لأفتح عيوني وأتأكد بنفسي مما يحصل.

وجدت نفسي في سريري البيروتي أحاول النوم لساعة إضافية يوم الأحد، والضجيج المقلق مازال منبعثاً من حولي. لدي قدرة نادرة على نسيان تفاصيل الأحداث الماضية، لم أذكر صاحب الصوت الذي يغني الأغنية ولم أتذكر اسم كاتبها عندما كانت مجرد "قصيدة" يجب علينا أن نحفظها ونحن تلاميذ في المدرسة، لم أذكر حتى الصف الذي كنت فيه عندما كان علي دراسة القصيدة وتقطيعها وإعرابها وترديدها أمام الجميع باعتباري الطالب "العبقري" في اللغة العربية. لطالما أحببت الشعر والقصائد لكن هذا النوع من الكتابة الذي كان دائم الوجود في المناهج الدراسية البعثية لم يكن أكثر من استفزاز لغوي مزعج يجب دراسته لأنه سيأتي حتماً في أسئلة الامتحان كواجب "وطني" أو ربما كان واجباً "قومياً، لا أذكر تماماً.

في شارعي الفرعي الضيق في الأشرفية كان أحدهم يجلس في سيارة مع علم كبير لم أتبين ملامحه جيداً وهو ينتظر أحداً ما والأغنية "الثورية" تصدح في كل مكان لتغطي على الضجيج التقليدي الذي أمقته كأصوات العصافير الصفراء المزقزقة التي أكرهها أكثر من أي شيء آخر على الكوكب، فضلاً عن صوت الديك الذي جلبه أحد جيراننا مؤخراً ليربيه على سطح منزله من دون سبب واضح، ولو كان الوقت متأخراً قليلاً لغطى الصوت بكل تأكيد على أصوات الأطفال الذين يلعبون كرة القدم في ناد أرمني بجوار منزلي تماماً، والذي لا يمكن حجبه عادة بسماعات تقليدية بل يتطلب حجبه سماعات بتقنية عازلة للضوضاء اقتنيتها مؤخراً.

لن أستجدي أحداً ولن أقول بضعف أخرق "أناديكم أشد على أياديكم" أن تتوقفوا عن هذا الإزعاج، وضعت سماعاتي على رأسي لأستمع إلى مايكل جاكسون كطقس صباحي جميل، ولو كان اضطرارياً، تمنيت للحظة لو كنت أستطيع الاستماع له انطلاقاً من واجب قومي أو انتماء وطني مثلاً، وأنا أفكر بكمية الأغاني الوطنية التي كانت تفرض علينا، ومازالت في كل مناسبة عن الحدث الفلسطيني الممل والمستمر منذ الأزل من دون بوادر للحل أو التغيير في طريقة التعاطي الممانع معه.

مر أمامي شريط من المناسبات القومية السورية، كلها مرتبطة بفلسطين التي طالما تصدرت نشرات الأخبار وقطعت من أجلها أفلام الرسوم المتحركة خلال أيام طفولتي، حجارة وصراخ وعنف وملل وخطابات في المدرسة والجامعة و"مسيرات" في الشوارع من أجل "التضامن"، لا يستخدم أحد كلمة "مظاهرة" في سوريا الأسد، التجمعات الحاشدة كلها من أجل "القضية المركزية" باستثناء مسيرات دعم القائد الخالد بكل تأكيد.

لم أكن يوماً مهتماً بكل ذلك الهراء أو معرفة ماذا يجري حقاً، وفي الواقع مازلت أعتقد بصدق أن قصة الحب الفاشلة بين مايكل جاكسون وبيلي جين، حتى لو كانت قصة متخيلة بالكامل، أكثر عمقاً وأهمية من صراع طويل على "شقفة أرض"، يتم تحميله بكافة أنواع العنصرية الدينية والقومية والعرقية وكافة أنواع الأحقاد التي لا تعنيني شخصياً لدرجة التضامن أو الوقوف مع أي من أطرافها. ابتسمت وأنا أفكر بالعلاقة الميكيافيللية بين حزب "البعث" القائم على فكرة "الأبدية" وقضيته المركزية التي تشكل محور خطابه للتجييش والشرعية بوصفها قضية "أبدية" غير قابلة للحل.

ومع أفكاري المتداخلة بموسيقى البوب، كدت أخطئ للحظة بفتح "فايسبوك" على هاتفي، لأنني منذ إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قبل أيام اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، هجرت تطبيقي المفضل نحو "تويتر"، مجبراً على تحمل شعاره كعصفور مغرد من أجل خاصيته التي لم يتعلم "فايسبوك" استنساخها بعد للأسف، وهي لائحة الكلمات الصامتة "Muted Words" التي لا أرغب في رؤية أي منشور أو تغريدة عنها، مثل "القدس" أو "السفارة الأميركية" أو "إسرائيل"، وغيرها من الكلمات التي تجعل الفضاء في "تويتر" مثالياً وهادئاً لتصفح أخبار الصباح المهمة فعلاً في يوم العطلة.

قال لي صديق قبل أيام أن جزءاً من هذه اللامبالاة يعود لما حدث في سوريا لاحقاً، وأن اهتمامي بـ "بلدي" يطغى على اهتمامي بالقضايا الخارجية، وأن كثيرين يعبرون في "فايسبوك" عن هذا الامتعاض، بما في ذلك بعض الموالين للنظام المنطلقين من إحساس "وطني" جديد يحصر شعورهم بنطاق جغرافي محدد.

لا ينطبق ذلك علي بشكل تام، فأنا لا أستبدل شوفينية عتيقة الطراز بأخرى طازجة، كما أنني أتعامل مع الحدث السوري كمراقب خارجي من دون ارتباط عاطفي فعلي. التضامن والغضب والتظاهر وما إلى ذلك من المشاعر عديمة الفائدة التي تغمر الجو العام هذه الأيام تتطلب حداً أدنى من الشعور بالانتماء، لوطن أو دين أو قضية أو تيار أو فكرة أو حزب أو ما شابه، وفي الواقع تشكل كل الكلمات السابقة جزءاً من "الكلمات الصامتة" ضمن شخصيتي، التي لا أنتمي فيها سوى لنفسي، ولنفسي فقط.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها