السبت 2017/09/02

آخر تحديث: 13:02 (بيروت)

مقلب من مقالب الصحافة

السبت 2017/09/02
مقلب من مقالب الصحافة
increase حجم الخط decrease
يشعر الصحافي أن مهنته هي نوع من التمارين، التي تدربه مزاولته لها على ضبط ذاته. ذلك، أنه، وحين يذهب إلى إجراء مقابلة مع واحد من أهل الثقافة والفن في بيروت، يتعرض لموقف معين، يفيد بسماعه كلام ممجوج، سرعان ما يدرك أنه مجرد موضة، ستتبدل عاجلاً أم آجلاً. 
ففي بعض الأحيان، يروج مفهوم من هنا، أو يذيع همّ من هناك، أو يجري تداول عنوان كتاب، أو إختزال بعض المجالات في بعض الأسماء، وعندها، تشرع الغالبية في ترداد المعزوفة إياها، بلا أدنى تدقيق، وبلا أسلبة حتى. فثمة نوع من الصواب الثقافي والفني، الذي يقوم بالموضة، ولا بد للجميع أن يؤديه، وأن يثبت لنفسه أنه ضليع فيه، أي ممتثل كثيراً له.

لكن مشكلة الصحافي تتعدى روتين المسموع في أثناء إجرائه للمقابلات، بحيث أنه، ومع ظهوره أمام واحد من هؤلاء "الأهل"، حتى يبدأ التعامل معه على أساس أنه يحمل كاميرا، أو بالأحرى أنه الكاميرا، التي تقتضي من الواقف في إزائها أن يتصرف، لفظياً أو مسلكياً، بطريقةٍ تشي بأنه ينطق بمعلومات مهمة للغاية، أو أنه يقتطع حصة من وقته الثمين للتصريح بشؤونه، أو أنه لا يأبه لما يسمى، وبشكل مضحك، "الإطلالة الإعلامية"، على الرغم من رغبته الواضحة فيها.

فالأسوأ، والأكثر إثارة للسخرية طبعاً، هو لما يحاول، وبطريقة مبتذلة، إخفاء رغبته تلك بمقولات مناقضة لها، كأن يشتم الصحف مثلاً لأنه يريد منها أن تسلط ما يسمى "أضواءها" عليه.

في المقابل، ما على الصحافي سوى أن يتحمل كل هذه الحقيقة، أن يغض الطرف، أن يصغي، أن ينظر في عيون الذين يقابلهم ريثما ينهون ما يتفوهون به. إلا أن مسألته لا تتوقف هنا، بل أنها ترافقه إلى ما بعد إنهائه لمهمته. فعندما ينطلق في "تفريغ" مسموعه، يمضي في رحلته القاسية والمعذبة، التي، وخلالها، يستحضر الكلام النازل على آذانه، والمشاهد الساقطة على مرآه. يستعيد كل ما سجله، وقد يغضب، وقد يتذمر، وقد يتقزز، لكنه، لما يتذكر موضعه، لما يتذكر أنه صحافي، يهدأ، ويستريح قليلاً، ويقول أن ما فعله كان محكوماً بلعبة الإستفهامات والأجوبة.

بيد أن لا يمكن له أن يهمد حيال بعض تلك الأجوبة، التي تظهر نمطية، ومفرطة في نمطيتها، أكانت متعلقة بقضايا موضوعاتية، أو سياسية، أو إجتماعية، أو إقتصادية. مع العلم أن الخانة هذه، المتعلقة بالحالة المادية والطبقية وسبل العيش، غدت، ومنذ زمن، مخفية، أو من المشين الحديث عنها. لا يقدر على الهمود حيالها، ونتيجة ذلك، قد يقلع عما "يفرغه"، أو قد "يفرغه"، إلا أنه يفعل ذلك بحيطة وحذر، أو "بلا نَفس"، أي هكذا، بلا محفز، بلا حماسة، بلا داعي. فعلياً، ومن جهتى، قليلة هي المقابلات، التي أجريتها مع أهل الثقافة في بيروت، واعتدقت بأنها جديرة بنعتها.

على أن الصحافة تعلمنا تحديد المسافة، التي تقي ممارسها من روتين المسموع أو هيئة الإستعراض، أكان معهوداً أو خبيثاً، مجتراً أو متنكراً. مثلما، تعلم الصحافة، بتعيين المسافة، الإنضباط الذاتي، ولما يقترن هذا بأقل ما تعلمه الكتابة، أي الإنتباه التدخلي، لا يعود إجراء المقابلات نوعاً من الوقوف على الأجوبة بقدر ما هو "تسجيل" لأطوار الثقافة والفن، التي لا تنفصل عن أطوار البلاد بمجملها: "تسجيل" لحالات ومآلات الحقبة المتصحرة، التي نحيا في ظلها، والتي، ومنذ سنوات، ما عادت تنتج معرضاً أو عرضاً أو أي عمل على إختلافه، يشاهده أو يقرأه أو يتفرج المرء عليه، ويغادره مذهولاً به. 
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها