الأربعاء 2017/05/31

آخر تحديث: 12:48 (بيروت)

الاحتقار

الأربعاء 2017/05/31
الاحتقار
تلك البلاد التي يقدمها "غوغل" على أنها سوريا ما قبل الحرب.. هل كانت موجودة فعلاً؟
increase حجم الخط decrease
فتيات صغيرات يأكلن البوظة بمرح، أطفال يرتدون قمصاناً لفريق برشلونة، أحدهم يبدو في هجومه على الكرة وكأنه ابراهيموفيتش، مراهقون وشباب تتمايل أيديهم مع إيقاعات فرقة الروك البريطانية "غوريلاز"، أسواقٌ أثرية تتعانق فيها بقايا العمارة الرومانية مع مآذن الجوامع، شاطئ فيروزيٌ نظيف يستمتع بمياهه ورماله مصطافن بزيّ البحر، أوابد رومانية يلتهمها السيّاح بكاميراتهم، سيّدة تحيطها دجاجاتها في منظر ريفي خلّاب تزيده ألوان ثيابها الفلاحية الزاهية رونقاً وجمالاً.


هكذا كانت سوريا قبل الحرب بحسب موقع "البحث عن سوريا" الذي أطلقه عملاق التكنولوجيا "غوغل" بالتعاون مع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، في إطار حملة تهدف إلى الإجابة عن الأسئلة الأكثر شيوعاً حول المسألة السورية: كيف كانت سوريا قبل الحرب؟ ما الذي حدث في سوريا؟ ماذا يعني أن يكون الإنسان لاجئاً؟ أين يذهب اللاجئون السوريّون؟ وكيف السبيل إلى مساعدتهم؟

ما من مفاجأة بحسب "غوغل" والمفوّضية، فحياة السوريين قبل الحرب "تشبه حياة الكثيرين ممن يتصفحون الموقع"، يعيشون في بلدٍ لطالما "عمّه السلام"، بلد فريد ذي تاريخ غنيّ، يجتذب من السيّاح أكثر مما تجتذبه قارة أستراليا، ويخرّج من الكفاءات العلمية ما تتجاوز نسبته الولايات المتحدة. أكثر بلدان العالم تطوراً!

يعرض الموقع رؤيته هذه بطريقة جذّابة وأنيقة، فلا تثير الصور في القلب إلا الحنين، ولا يمكن للسوري وهو يتصفح هذا القسم من الموقع إلا استحضار أغنية "حلوة يا بلدي". وباللمسة التقنية الجذابة ذاتها، ينقلنا الموقع بسؤاله الثاني إلى عالم الواقع، فيقول أن سوريا التي تكلّم عنها في قسمه الأول "لم تعد موجودة".

سوريا الماضي هي ذلك الركام والغبار الذي يملأ الصورة الافتتاحية للقسم الثاني من الموقع، والسوريّون هم تلك السيّدة التي ترمق هذا الخراب بازدراء، مصرّة على ارتداء الأرزق الزاهي وعلى المضيّ بابنها وبالونه الملون السعيد خارج إطار الصورة. يتسيد هذا الخراب الرهيب القسم الثاني الذي يشرح ما جرّته الحرب السورية من خراب وكوارث إنسانية غير مسبوقة على البلاد والعباد، مع التذكير بأن الحرب السورية بدأت عقب مظاهراتٍ سلمية. وينتقل في الأقسام التالية إلى تعريف زوار الموقع على معنى اللجوء، وأهم البلدان التي استقبلت السوريين، وأجدى الطرق لمساعدتهم.

دعاني تصوّر الموقع عن سوريا ما قبل الحرب إلى الحسرة، وضجّ رأسي بصرخة "يا ليتها لم تكن" والتي يتسع صداها يوماً تلو الآخر. ثم أحسست أنني تسرّعت قليلاً بهذه الصرخة. فسوريا ما قبل الحرب، كما يقدمها الموقع، لم تكن موجودةً يوماً، بل إن تصور الموقع منقوص ومصممه لم يرَ من سوريا إلا ملصقات المكاتب السياحية، إنه تلميذٌ مخلص من تلامذة مدرسة "لا تقربوا الصلاة".

لكنني عدت وقلت لنفسي، أن نسبة غير قليلة من السوريين كانوا يعيشون في سوريا المتخيلة هذه. أنا نفسي كنت واحداً منهم. مهندسٌ شاب، دخلي يتطور يوماً تلو الآخر. لم أكن شديد الاهتمام بالسياسة، وأدمنت، مثل كثيرين غيري، كل أساليب اللف والدوران التي تمكّنني من الحصول على أكثر ما يسعني من حقوق. كنت، وما زلت، مقتنعاً بأنه ما من قضيّة في العالم تستحق أن أضحّي بنفسي، وأن درب التحرر في بلدي طويلٌ وشاقٌ للغاية، وأن الكثير من الظروف الموضوعية الخارجية قد تزيد من وعورته، وهو ما لم يكذّبه مآل الثورة والواقع السوري خلال السنوات الست الأخيرة.

لا أعتقد أنني كنت وحيداً في هذا المذهب، فلم أتمتع بحظوة خاصة عن مئات آلاف الشباب من أقراني، وأعتقد أن شرائح واسعة من "الطبقة الوسطى" السورية شاركتني هذا المذهب، ولطالما حاولت عيش "السعادة والهناء" في ظل الرسالة الخالدة لحزب "البعث" ورغماً عنها. لكن لماذا لا يمكنني أن أقبل برؤية الموقع، رغم قدرتي على هضم هذه الرؤية في الكثير من الأفلام الهوليوودية، التي تقوم حبكة غالبيتها على قصة نجاحٍ فردي تحدّت بحر الصعوبات المجتمعية وتغلّبت عليها؟

أحسست أن هذا المونولوغ الداخلي، الذي رفع حرارة تلافيف رأسي، قد انتصر نوعاً ما لهذه الرؤية التي ورثتها من سوريا ما قبل الحرب. غالبني كبريائي، ودعتني رائحةٌ كريهةْ لا أعرف مصدرها إلى عدم الاستسلام، فأعدت تصفّح الموقع. أمعنت النظر في كلماته وقلّبت صفحاته عدداً من المرّات. لقد وجدتها. إنهم يستعملون صيغة المبني للمجهول في جميع عباراتهم!

قد لا تثير هذه الملاحظة إلا السخرية، لكنها ليست بالهزل الذي نتصوره. لم يُحِل الموقع في تعابيره كلها، إلى ذات، أو فاعل، إنه يجرّد السوري من مسؤوليته عن أفعاله، فيحرمه من الجدارة والأهلية، ويعامله بدونيّة، معاملة الأب لطفله الذي لم يتجاوز الخامسة. لا يعترف بالإرادة الحرّة للسوري، لا يعترف بسوريا ككيان، كمشروع وطن. لا يرى سوى سوريّين أفراداً، لم يعترف بأن السوري قام ذات يوم بثورة، بل ولا يبالي بإغراء اتهام السوري بالمسؤولية عن تخريب بلده! إنه تضامنٌ قوامه الاحتقار المطلق!

وجَدَت هذه الملاحظة اللغوية "الفلسفية" ركيزتها الاجتماعية والاقتصادية في طبيعة المسؤولين عن الموقع. فكيف يمكنني رؤية شركة "غوغل" والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين إلا بوصفهما رمزين لنظام عالمي بالغ بفوقيته تجاه السوري والفرنسي والمنشوري، فلم يعد يعترف بأي إرادة جمعية وبأي مشروع وطني قد تنتجه المجتمعات وبات يرى في كل أفراد الكوكب مجرد لبنة أخرى في الجدار (Another brick in the wall)!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب